Deprecated: strtolower(): Passing null to parameter #1 ($string) of type string is deprecated in /home/lorientd/public_html/evenements_arabe.php on line 116
Deprecated: strtolower(): Passing null to parameter #1 ($string) of type string is deprecated in /home/lorientd/public_html/evenements_arabe.php on line 116
Deprecated: strtolower(): Passing null to parameter #1 ($string) of type string is deprecated in /home/lorientd/public_html/evenements_arabe.php on line 116
Deprecated: strtolower(): Passing null to parameter #1 ($string) of type string is deprecated in /home/lorientd/public_html/evenements_arabe.php on line 116
Deprecated: strtolower(): Passing null to parameter #1 ($string) of type string is deprecated in /home/lorientd/public_html/evenements_arabe.php on line 116
بمناسبة صدور كتاب الاديبة نجوى بركات \'يا سلام\' باللغة الفرنسية
ضمن منشورات L’Orient des Livres/Actes Sud
الحركة الثقافية – انطلياس ودار نشر l’Orient des livres
يتشرّفان بدعوتكم لحضور
لقاء مع الاديبة نجوى بركات يديره عبدو وازن
وذلك يوم الثلاثاء 13 آذار 2012 الساعة الرابعة والنصف مساء في مسرح كنيسة مار الياس في انطلياس
يلي اللقاء توقيع الكتاب في جناح دار l’Orient des Livres
Deprecated: strtolower(): Passing null to parameter #1 ($string) of type string is deprecated in /home/lorientd/public_html/evenements_arabe.php on line 116
يقول سمير فرنجيه في الصفحة 78 من كتابه الذي لا أعتقده ينتسب، بالرغم من عنوانه، \"رحلة الى أقاصي العنف\"، الى سوداوية عالم لويس فردينان سيلين، بل فيه وجهان متتاليان، محبط ومشرق، يكتب قائلاً: \"لم أكن أدرك في حينه البعد الخاص بالعنف إذ لم أكن أنظر اليه إلاّ بغايته السياسية وكونه أداة في خدمة مشروع كبير. مع ذلك كان ينتابني شعور غامض بأننا جميعاً لعبنا دور السحرة الصغار وقد بتنا عاجزين عن السيطرة على العنف الذي ساهمنا بإطلاقه في شكل من الأشكال. وصار المطلوب الآن الحدّ من الخسائر. كيف؟ بالتحاور مع الخصم\".
يمكن تحديد لحظة الوعي السياسي - الأخلاقي هذه ضمن حياة سمير فرنجية السياسية في نهاية سبعينات القرن الماضي وأذكر ملابساتها جيداً: بعد النهاية المؤقتة لما سمّي تأريخاً \"حرب السنتين\" والتي اتّسمت بمواجهات مرسومة سياسياً وطائفياً الى حدّ كبير وموآتية للتعبئة الشعبية السابقة لاندلاعها بين كتلتَي الاحزاب والقوى الوطنية والفلسطينية من جهة والجبهة اللبنانية من جهة أخرى، كسر انحياز النظام السوري الى جانب المسيحيين (كي نقول الأشياء اختصاراً) ومواجهته الحركة الوطنية واغتيال كمال جنبلاط هذا الاصطفاف فأربك (وما يزال) صفوف الوطنيين والممانعين ثم جاءت بعده بوقت قليل أول حرب مسيحية - مسيحية إثر مجزرة اهدن عام 1978 وأعتقد أن انفلات عنف مساو، لا بل أكثر ضراوة بين أبناء المعسكر الواحد والطائفة الواحدة، كان له الأثر الكبير في المراجعة التي بدأها سمير فرنجية لأحداث كان البعض من بيننا استقبل بدايتها بشيء من الفرحة الثورية حيث آن أوان وضع الفعل موضع القول. وإذا كان الاحتواء السوري القسري للشارع الوطني يندرج في معطيات سياسية اقليمية واستراتجية كما كانت تسمى تهذيباً نزعة الهيمنة هذه، فإن الاقتتال الماروني كان أقرب الى العبثية ومجرد استخدام لفائض القوة والسلاح بحقّ الأقربين لإخضاعهم، ولا يحتمل تعمّقاً كبيراً بدوافعه السياسية، وقد رسمت هذه المجابهة بداية حلقة العنف المتوالد والتي يكرس لها سمير فرنجيه النصف الأول، النصف الصعب والأسود من كتابه، النزول الى جهنم، وهو يغنيه بمقاربة للسلوك النفسي الجماعي والعنف من خلال ظاهرة التماثل العزيزة على قلب رينه جيرار، مع قراءة فريدة ومفاجئة بعض الشيء للتجربة الشهابية التي عملت على ردم هوّة التفاوت بين الفئات والمناطق فجاءت النتيجة غير متوقعة: \"في اللحظة التي بدى فيها اللبنانيون أكثر توحّداً، كانوا في الواقع الأكثر انقساماً. إنها لمفارقة كبيرة يتبيّن فيها أن \"تشابه\" اللبنانيين كان المقدمة للمواجهة فيما بينهم\".
لكن ولادة الوعي هذه لدى سمير فرنجيه حسبناها في حينه تخلياً عن قضيتنا نحن الذين كنا تصالحنا في هذه الأثناء مع محيطنا في زغرتا بمناسبة هذا العداء المستجّد مع \"موارنة جبل لبنان\"، غير مدركين في لحظتها أننا لم نكن نساهم سوى في مزيد من التوغّل في حلقة \"اللبننة\" كما سمّي تناسل النزاعات الأهلية الى ما لا نهاية. وما ساءنا كانت تلك الشائعات التي كانت تصلنا حول اتصاله وتنسيقه مع أطراف كنّا قد أبلسناهم من دون رجعة، أمثال مدير المخابرات، المكتب الثاني، في عهد الرئيس الياس سركيس أو هذا أو ذاك من رموز الميليشيات المسيحية. كان ما زال عصيّاً علينا، كما هو ما يزال حتى اليوم عند العديد من مدّعي السياسة في لبنان، التمييز بين \"النوم في فراش الأعداء\" وضرورات الحوار والانفتاح الوطنيين على من يخالفنا الرأي وحتى المنطلق. وقد لزم ما يقارب العقد من الزمن كي يتجاوز بعضنا بلادته ووهم الحسم العسكري وكافة ضروب الانتصار على خصم داخلي والتي ما تزال حتى اليوم تُسكر بعض الرؤوس ومنها المعممة، لزمنا عقد من الزمن لندرك بدورنا أن لا مفرّ من \"العيش معاً\" فنصفّق في نهاية الثمانينات وبالرغم من مغامرات الوقت الضائع الدموية والبائسة، نصفق لظهور ملامح تسوية \"اتفاق الطائف\" حيث وجدنا سمير فرنجية في طليعة الساعين اليها.
هكذا سبقنا سمير فرنجية مرة أخرى. فهو كان، إن صحّ التعبير، \"نزل\" قبلنا الى العاصمة حيث كان يمثّل في نظرنا نموذجاً لنجاح لنا ممكن في المدينة بالعلاقة مع الآخر ومع الحداثة وأفكارها واحتمالاتها، نحن المعلنين انضواءنا في الستينات تحت شعارات ماركسية مستعجلة، القاصدين الجامعات، وخصوصاً الجامعة اللبنانية في بيروت، من زغرتا حيث كانت حلقة العنف العائلي، وقبل انطلاق أحداث العام 1975 بسنوات، أتمّت دورتها العبثية أيضاً حيث وبعد مواجهات الـــعام 1958 بين حلف عائلي في مواجهة حلف آخر انفصل طرفَي الحلفَين، هكذا وبصورة شبه كاريكاتورية وكما حدث أحياناً في الحرب اللبنانية، ليتواجه أصدقاء الأمس من الطرفين في نزاع دموي فيما بينهم ايضاً. وكان لنا تبادل في هذا الخصوص عندما شجعني مع سمير قصير على كتابة رواية حوادثنا هذه، \"مطر حزيران\"، (والتي داعبته بإهدائها اليه على أنها ثأر بالخيال الأدبي من آل فرنجية وهي ليست كذلك)، ان لنا تبادل حول ما تحمله حوادث زغرتا الدموية من دلالات استباقية ونوع من \"التمرين العام\" على الحرب اللبنانية قبل ما يقارب العقدين على انفلاتها. دورة عنف تألفت إثرها \"حركة الشباب الزغرتاوي\" التي ابتلعتها الحرب قبل أن تشتت اليسار اللبناني. لا عجب في أن يغوينا سمير فرنجية في ستينات وسبعينات القرن الماضي فهو ابن زعيم وسياسي كبير يتنكّر لامتيازات عائلية له ممكنة كي نوزّع معاً في الليالي البيانات الثورية على متن سيارته الفولفو الغبراء العتيقة التي كان زجاجها الخلفي معطّلا وكي نتجمهر معا في تظاهرة البربير الشهيرة نتلقى الغاز المسيّل للدموع وانهمار الرصاص. وهو إذ ضاق ذرعاً بالانضباط الحزبي تبعناه في خروجه هذا حتى نفض عن كاهله ثقل القراءة المناضلة للأحداث اللبنانية. لكن عبوره اليساري لم يكن مغامرة شباب بحتة بل أكسبه في اعتقادي، وأكسبنا، تقويماً أكثر واقعية للبعد العربي في شؤوننا اللبنانية وقيماً انسانية لا يأكلها الصدأ كالعدالة والمساواة والعطف على العمال والفقراء. إنها سيرة عقل نيّر، يخوض التجربة فلا تستنقعه إذا جاز لي التعبير ليقف كالصوت الصارخ في البريّة يقول بأن العنف والقتل وسائر أصناف الاغتيال لا يمكن أن تكون أدوات في خدمة السياسة بل تتوقف السياسة وتنتحر عند عتبة هذا العنف.
يستفيد من تجارب خاصة وعامة، يراهن على تحفيز التنمية وإعادة تكوين الطبقة الوسطى من خلال طموحات رفيق الحريري الاقتصادية وعلى استعادة الكيان والسيادة بفضل صلابة مواقف البطريرك نصرالله صفير الاستقلالية ويحمل اتفاق الطائف كترياق سحري اينما حلّ. لم يستسلم لإدارة السلطة السورية شؤون لبنان بل راح يحفر الجبل بالإبرة كما قال أحدهم فيه وبصحبه، يكتب نصوصاً ويخوض حوارات وينظّم لقاءات ويملأ ذاكرة حاسوبه وكان مبكرا في الانتقال الى استخدامه، بقوائم اسمية للنخب التي يمكن التعويل عليها في عودة محتملة للحياة السياسية، حتى انفتح أمامه باب النشاط المباشر عن طريق لم يكن يتوقّعها قبل سنوات على الأرجح، طريق الكنيسة المارونية، فكان لقاء \"قرنة شهوان\" غير المسبوق في إدخاله تعديلات جوهرية على خطاب النخبة السياسية المسيحية في لبنان، بتحويله الى خطاب جامع تأسيسي صادر عن مسيحيين ولا ملامح فئوية فيه وهذه المعجزة الصغيرة لسمير فرنجية اليد الطولى في تحقيقها.
فثبّت مجدداً حاجة العمل العام في لبنان الى الفكر سياسي فكانت عملية إعادة تأسيس لبنان وإخراجه من ركام السيطرة السورية تحتاج الى سمير فرنجية كما احتاج الاستقلال ودستور 1943 الى ميشال شيحا مع اختلاف الظروف، الممكنة في الأربعينات والعاصفة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. والدور شبه الاحتكاري الذي لعبه فرنجية في تدبيج البيانات والإعلانات والشعارات خلال اجتماعات قرنة شهوان ومن بعدها 14 آذار انما يدلّ إضافة الى افتقار الطبقة السياسية للتنظير السياسي (وذلك بسبب أصولها الأهلية والطائفية والممارسات الخدماتية للزعامات وهذا ما يعفيها عموماً من الحاجة الى تبرير وجودها وتنطّحها للقيادة)، كان هذا الدور يكشف تمتع فرنجية بموهبة الصياغة إضافة الى فنّ الصائغ. والواقع أن هناك شيء من عمل الجوهريّ في نظرته الايجابية للبنان حيث تبدو أقرب الى آلية دقيقة، الى توليفة مهددة، شيء من الخزف الثمين يصعب ضمان سلامته مع وجود رهط لا يستهان به من دببة السياسة المحلية والاقليمية ومنهم تحديداً من اعتمد خلال عقود طويلة العنف والفرقة والاغتيال لدخول المخزن اللبناني العطوب كسراً وخلعاً.
لكن ليس صحيحاً القول أن لسمير فرنجية وصفة للبنان يكرّس لها الجزء الثاني من كتابه تحت عنوان يخترق الفصول وهو \"العيش معاً\". إنها ليست صيغة تحتوي على منسوب ايديولوجي عال أو تخيلات مسبقة، فهو يقترح الصيغة الوحيدة الممكنة والقابلة للحياة في التركيبة اللبنانية كما يسمونها، وكما تكوّنت تاريخياً منذ إعلان لبنان الكبير، دولة قانون عمومي تسوس اللبنانيين بصفتهم مواطنين متساوين، ومجتمع خصوصيات متآلفة طالما يُحال دون تنازع وتناتش الشأن العام والملك العام من قبل الجماعات والطوائف. كل تقاسم ومحاصصة كما كل علمنة سياسية مفرطة مسارات لم ولن تفضي الى مكان سوى العنف والتقوقع. من هنا يأتي هذا الشعور لدى من يتابع سمير فرنجية بأنه \"مرتاح\" على أفكاره ومن هنا أيضاً ما يؤخذ عليه أحياناً حتى من تفاؤل لا ينضب. فهو كالواقف في الاتجاه الصحيح، في اتجاه التاريخ كما كنا نقول هذا إن كان للتاريخ من اتجاه، واقف في محطة ينتظر فيها أفرقاء السياسة الذين دخل لعبتهم لوقت قصير فلم تكسبه الكثير، يهزّ برأسه ويبتسم ببعض المكر وبعض التواضع، ينتظرهم كي يصلوا بعد أن يكونوا قد ارتطموا بالجدار وكوتهم التجربة. لكنهم قد يتأخّرون في الوصول فهناك دائماً صاعد جديد يحاول بسلاحه تغليب الأهل على الدولة وشعاره الواهم \"أنا أقاوم العدو فأنتم بالتالي مخطئون\" وهناك دائماً شعبوي يقرقع عالياً و\"يشعل من كل حطب ناراً\" لاقتناعه أن العلّة كانت في أسلوب وشخصية من سبقه في السياسة وليس في المواقف والشعارات. لم يحبط سمير فرنجيه هذا التكرار المفجع للأخطاء من قبل الأطراف السياسيين العاجزين عن الاستباق وعن الاستفادة من تجربة الماضي القريب المضافة اليها قابلية لبنان لتأثيرات الجوار. فهو يعرف أن اللقاء اللبناني المرتجى لا أهل له نافذين ومن يقول بثقافة الرابط نخبة لا عسكر وراءهم، فيكتب في الصفحة 151: \"لم يُدرك القادة اللبنانيين أبعاد اتفاق الطائف الذي ربط بين مفهومَي المواطنة والتعددية الطائفية ليرسي شكلاً ديموقراطياً جديداً أكثر انسجاماً مع مجتمع تعددي مثل لبنان. قبل ذلك كانت الحلول المقترحة تتراوح بين حدين: انفصال بين الطوائف قد يؤدي الى التقسيم او الغاء لما يسمى الطائفية السياسية يحصر الانتماء الطائفي ضمن الدائرة الخاصة دون اي تعبير معترف به. الواقع ان اتفاق الطائف يضع الطوائف في مجال العيش معاً بينما يصبح مجال العمل معا من اختصاص المواطنين ومؤسسات التضامن المرتبطة بالدولة كالاحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الاجتماعية...\".
لسنا هنا أمام \"فكرة ما\" عن لبنان، كما نسب للجنرال ديغول عن فرنسا Une certaine idée du Liban، إنها بكل بساطة \"فكرة لبنان\" الممكن المتصالح الوحيدة هذا إذا كان وراء نشوء لبنان من فكرة، وإن لم يكن فإن سمير فرنجية يستخرج لبلده التبر من التراب وينتظر... الى أن لاحت مع ثورة الأرز إثر اغتيال الرئيس الحريري إمكانية الاقتراب من هذا اللقاء الجامع ليس عبر الساسة وزعماء الطوائف وليس خصوصاً عبر التطبيق المخابراتي السوري لاتفاق الطائف بل بتلاقي الشارع، هؤلاء الغير منتمين الى احزاب وزعامات وهم الاكثرية بين النازلين الى انتفاضة الاستقلال والذين طالما حاول سمير فرنجية احصاءهم وتفعيلهم. لكن العدّة المضادة بما فيها من اكراه واغتيال وإفساد لهذه الانتفاضة نجحت في لجمها وإبطال العديد من مفاعيلها واحتمالاتها. ورفع رأس الكنيسة المارونية الجديد هواجس الأقليّة فضاقت الرؤية ولم تتسع العبارة، بالإذن من النفّري. واليوم ها هو الربيع العربي، انتفاضة الديموقراطية المقتربة من حدودنا، توفّر فرصة جديدة من أجل إعادة صياغة أو ممارسة فكرة العيش معا اللبنانية السيزيفية هذه.
\"رحلة الى أقاصي العنف\" كتاب – محصّلة فيه من السيرة الذاتية القليل الذي يفلت من خفر وتواضع صاحبه والكثير من مسيرة بلد يعتقد سمير فرنجية بعد والده بأنه مؤتمن على صيرورته، ما يجعله أقرب الى صورة حارس الهيكل اللبناني.
Deprecated: strtolower(): Passing null to parameter #1 ($string) of type string is deprecated in /home/lorientd/public_html/evenements_arabe.php on line 116
أيها الحضورالكريم،
سمير فرنجية اليوم إنسانٌ سعيد. سعيد أولاً بجمهوره الواسع، الذي هو في الحقيقة مدٌ من الأصدقاء ما زال يعلو من عقود وعقود وفيه الكثير من الألفة والألاّف، على قول ابن حزم الأندلسي. وهو سعيد بتداعي أبواب الفكر لتكريمه ومساءلة كتابه الأول لا الأخير، ويسجل له أنه كتابٌ شيّقٌ مترابطٌ متماسكٌ مسبوكٌ في وحدة التجربة والمرمى والثقافة وليس باعتباره مجموعة مقالات: الشعرُ هنا، والرواية ُ، والتاريخُ بمعناه الأوسع، والتطلعُ الفلسفي. وهو سعيد أخيراً لأننا تحلّقنا حوله، لا من الطوائف كلها، بل، على اختلاف مشاربنا الفكرية والسياسية ، آتين من الشمال والجنوب والبقاع، مما يثبّته في بيروتية عريقة يصنعها ويجددها العيش المشترك في المدينة الواحدة، مدينةِ الخصام ِ والوئام ِ، مدينةِ الكلِّ بيروت.
أيها الحضور الكريم،
قبل أن أعطي الكلام للأصدقاء المشاركين في هذه الحلقة النقاشية ليُدلوا بدلوهم في هذا الكتاب العصارة Voyage au bout de la violence الذي نقله إلى العربية رفيق الدرب لا بل الدروبِ كافة محمد حسين شمس الدين تحت عنوان رحلة إلى أقاصي العنف، أَودُّ باختصار أن أسجل ملاحظة ً وأن أبوحَ ببوح ٍ.
أمّا الملاحظة فهي أن ما يقوم به سمير فرنجية هو فينومينولجيا، بالمعنى الهيغلي، وهو ما ترجم بالظهورية والتمظهر والتجلّيات وعلم الظهور، فينومنيولوجيا العنف في لبنان منذ مطلع حروبه في 13 نيسان 1975 إلى اليومَ (فيما رواية سيلين في الكتاب الذي يحمل العنوان ذاته تقريبا فينومينوجيا بالمعنى الهوسرلي لأشكال البؤس العادي أي الفقر المتوسط): أي سبرُ غور ِ التجربةِ التاريخية واكتناه معناها والإغتناء منها وعَبْرَها، أي إيلاؤها، بما هي سلبٌ لا إيجاب، معنى ومغزى يتيحان الخروج منها وتجاوزها وتخطيها. قد تظهر ظاهرة العنف اليوم، بعد أن كانت \'قابلة\' التاريخ و\'رافعته\' حسب إنجلز، سلبية ً كليا. لكن من كابدها وعرف بشاعاتها يودُّ التغلب عليها بالذهن وفي العيش ولاسيّما أنه أمضى فيها معظم حياته وما زال.
ولا بدّ من الإضافة هنا أن فينومينولجيا العنف اللبناني يجب أن تُتبع بفينومينولوجيا نقدية لأشكال العيش المشترك، فلا يظل الفردُ والدولة ُ رازحين تحت وطأة العديد من صوره.
وأما البوح، فهو بما شكـّله ويشكـّله سمير فرنجية لي ولآخرين من \'ضاحي ظِّله\' منذ أن عرفته إبّان صعود الحركة الطلابية في آخر الستينات أي منذ حوالى النصف قرن. شكل سمير دائما امكان (بالمعنى الفلسفي: غياب الاستحالة) فكرةٍ جديدةٍ وفسحة ً لبدائلَ حرة. للعائلات بديل ،وللطوائف و اليسار التقليدي والعنف بديل ، و عن العداوة لسوريا و قبول هيمنتها المطلقة بديلٌ، وقبل ذلك عن النظام الطائفي وعن الدعوات الطائفية لإسقاطه بديل و للبديل بديل...تعرّج طريق سمير، انفتح وانغلق، جاور المهاوي...لكنه كان دائما خلاقا في التصور، حواريا في الجوهر، نابذا الديماغوجية، داعيا إلى العمل والأمل والقضاء على اليأس والجمود وإلى سبل عمل جماعي غيرِ مطروقة وغيرِ مألوفة. لم يطرح نفسه على أنه هو البديل ولم يساوم في سبيل ذلك، بل سعى إلى فكرةٍ بديلةٍ وتيار بديلٍ ومؤسساتٍ بديلةٍ و مواطنيةٍ بديلة. ما رسّخ صداقة َ اصدقائه له وجذب اليه الكثيرين وجعله ممتنعا على الأخصام. من يصادقه يجاهر بصداقته، ومن يعاديه يُخفي عداءه له لأن في ذلك ما يزيد في الخسارة.
ولنا نحن الزهو بهذه الصداقة.
Deprecated: strtolower(): Passing null to parameter #1 ($string) of type string is deprecated in /home/lorientd/public_html/evenements_arabe.php on line 116
سمير فرنجية أو الإياب من أقاصي العنف
ضمير المتكلّم
في المقدمة التي وضعها جان بول سارتر لكتاب فرانز فانون معذّبو الأرض شكا الفيلسوف الفرنسي خلوّ التراث الأوروبي، بعد إنجلز، من تأمل يعتدّ به في العنف وموقعه من التاريخ... باستثناء ما سمّاه \"ثرثرة جورج سوريل الفاشستية\". جاءت هذه الشكوى مقترنة بدعوة الأوروبيين إلى قراءة الكتاب: كتاب فانون على أنه كلام الضفة الأخرى، ضفة المقهورين، في مسألة العنف هذه.
حين يفتتح سمير فرنجية كتابه بتأمّل في العنف حفزته خبرته اللبنانية مقترنة بقراءته لرينيه جيرار، يحملنا على السؤال: كلام من هذا الذي نقرأه في الكتاب؟ والحق أنه إذا كانت هوية فانون وموقعه ماثلين لنا منذ الصفحة الأولى من كتابه، فإن شيئاً يصعب تعيينه باسم أو بوصف، في كتاب فرنجية، يغري باعتبار هوية الكاتب وموقعه محصّلة مسار: مسارٍ هو ما يترسّمه الكتاب وهو ما ينجلي الموقع والهوية عبر محطّاته فلا تسطع ملامحهما إلا في خواتيمه. حتى إن القارئ يوشك، بعد الانتهاء من قراءة الكتاب، أن يستشعر رغبة في تصفّح معكوس له يبدأ من آخره وينتهي إلى أوّله: تصفّحٍ ينطلق من الخواتيم الجازمة ليمنح ما يتخلل الصفحات من تردّد وشكّ مكتومين، يتصاعد حضورهما رجوعاً، ما يستحقّانه من إمعان نظر. فهذان التردّد والشكّ يميطان اللثام بأصدائهما النابضة في الجمل والفقرات عن الخبرة التي لا يسعها أن تصل في الجزم إلى حيث يصل التحليل وعن الإنسان الذي يخشى عواقب مقترحاته فيترك فيها من التحسّب ومن توقّع العثرات ما قد يستغني عنه السياسي الداعية أو المصلح المعوّل على القيم المعتمدة وعلى النظر المجرّد.
مع ذلك تتجاوب في صفحات الكتاب قوّة إقناع وشدّة أسر غامرتان. وما هاتان إلا مشاطرة الكاتب القارئ هذا المزيج من الحجّة ومن الشعور الذي أرهفته الخبرة بحدود الحجج كلها. هذا الشعور الأخير يغتذي ممّا يعاينه المتأمل من لبس واختلاط في معالم المشهد اللبناني ومن عسر في استخلاص إرادة جازمة أو إرادات تصح نسبتها إلى اللبنانيين. وهو يغتذي، في ما يلي اللبس والاختلاط هذين، من الصعوبة التي يلقاها من يحاول تعيين الوقع المحتمل لأي تدبير إصلاحي أي ما يمكن أن يفعله اللبنانيون بهذا التدبير وبأنفسهم أو بعضهم ببعض. وذاك أن كل ما يمكن عمله في هذه البلاد يحتمل أن ينقلب إلى شيء مغاير لما أراده الطالبون والملبّون. وهذا في حين لا يمكن فيه ادّعاء القدرة على البقاء بلا حراك، إذ لا يعدو زعم السكون (أو هو قد لا يعدو، في الأقلّ) أن يكون زيادة في سرعة الاندفاع إلى هاوية جديدة.
من هذا الباب، أحبّ أن أصرّح بانجذابي إلى ما في هذه الصفحات من غنائية مُلْجَمة، سارية في ما يتقدّم إلينا على أنه مزيج تتباين، من مسألة إلى مسألة، نِسَبُه من المعاينة أو الملاحظة وما يتبعهما من تركيب المشاهد ومن التفسير ومن تبين السبل المتاحة والإشارة إلى الأمثل من بينها. ولم يكن هذا شأني بالضرورة حين كنت أقع على كلام كتبه سمير فرنجية أو نطق به بما هو سياسي كان، على الدوام، واضح الانتساب إلى وسط معلوم في السياسة اللبنانية أو إلى جماعة بعينها من جماعاتها. كنت أعرف أن كلامه هو كلامه وأنه بعيد عن أن يكون كلام أي كان من وسطه أو من جماعته. وكنت، على الرغم من ذلك، أمضي معه شوطاً يطول أو يقصر ثم أقف غير مسلّم بهذه أو تلك من الحصائل. في هذا الكتاب يبقى الرجل هو نفسه ولا ينكر موقعاً ممّا تداوله من المواقع. ولكنّه يستعيد ههنا تجربة حياة تصبح أشدّ كثافة وأجزل مضامين كلما اقتربنا معه من يومنا هذا. وهو يبدو، في هذه الاستعادة، وقد بات عصيّاً أبلغ العصاوة على الردّ إلى جماعة أو وسط. هو هنا كل ما عاين وخبر وكل ما قال وفعل، ولكنه وجه وشخص لا يقوم مقام أحد (فرداً كان الأحد أم جماعة) ولا يقوم مقامه أحد. هو يمثّل نفسه ههنا فيستوي فوق التمثيل وفي خارج منطقه.
في \"العنف الحكائي\"
هذا وليس مرماي في هذه العجالة إلى إيجاز الكتاب. وإنما مرادي الحضّ على قراءته، وهو ما لا يمنع، في عرفي، من طرح الأسئلة وإبداء الملاحظات. نحن، مع هذا الكتاب، حيال محاولة نادرة لاتّخاذ نظرية بعينها في العنف، هي نظرية رينيه جيرار، دليلاً يُقرأ على هديه تاريخ لبنان المعاصر أو الشطر الأقرب إلينا من هذا التاريخ، في أدنى تقدير. وتقوم القراءة على لحظ اضمحلال أو تضعضع نسبي لفاعلية ما نسميه البنى التقليدية، أي العوائل والطوائف، على التخصيص، في سياسة الهويات والفوارق الجماعية التي كانت حتى أوائل عهود الاستقلال، تنتظم المجتمع اللبناني فتحدّد مسارب التبادل الرمزي فيه وتتحكّم في اقتصاد العنف الذي يطرح إمكانه، بالضرورة، وجود أغراض مشتركة يفترض أن تتشاطرها الجماعات، على اختلافها صفاتٍ وأحجاماً وعلاقات. والفرضية المعتمدة هنا هي أن ما يزكي غلبة العنف وإفلاته من عقاله ليس وجود الفوارق الراسخة التي تسوسها تقاليد مجمع عليها وإنما هو تضعضع الفوارق واستشراء التشابه الواقع بين أفراد متذرّرين يلفون أنفسهم عراة أو شبه عراة مما كانوا ينمازون به من انتماء يخصّهم ويؤمّنهم في نطاق جماعة. ذاك ما خلص إليه جيرار إذ افترض أن \"حكائية\" الرغبة تفضي، عبر تسلسل البدائل، إلى الاستغناء عن موضوع للرغبة يسوّغ العنف ما خلا ظهور الرغبة نفسها عند الآخر. هذا فيما كانت الماركسية قد استنبتت العنف من الندرة ورجّحت اقترانه بالثورة على خصم طبقي لن يسلّم ما بيده طوعاً فجعل إنجلز العنف، في عبارة شهيرة، قابلة للتاريخ. ثم جاء فرويد ليقرن العنف بالتعبير الغريزي عن الحياة ولينصبه، من الجهة الأخرى، في مواجهة الحياة، واحدة من غريزتين أساسيتين تصل جذورهما إلى أداء الجسم الحي لوظائفه... وإذا وجد ما يشترك فيه هؤلاء النظريون فهو جعلهم كبت العنف أو ضبطه وتنظيمه وظيفة رئيسة للأنظمة الاجتماعية أو، على الأعمّ، لحضارات البشر.
فأما أن تعدّ البنى التقليدية، في حال تماسكها، مقتدرة – على ما يؤكّده سمير فرنجية – في تدبير توزيع للهويات واقتصاد للعنف يحصره ويعقله بأصول وحدود معلومة فهذا أمر لا ريب فيه. ويكفي من هذا القبيل الاطلاع على الأعراف التي تنتظم حياة البداوة فتتحكّم في الغزو وفي الثارات وفي الصلح والديات، إلخ. ويكفي أن نستذكر، على سبيل المثال، ما كان يسمّى أيام العرب في الجاهلية وهي أيام اعتبر بعضها منتظماً في حروب استوت بطول مدّتها مضرب مثل: كحرب البسوس أو حرب داحس والغبراء. هذه الحروب كانت الواحدة منها لا تقتل في سنين ما تقتله اليوم، في ثوانٍ، سيّارة مفخّخة واحدة.
صحيح أيضاً أنه كان من اقتحام سلطة الدولة الجديدة، في بعض الحالات، حصون هذه الجماعات التقليدية في لبنان المعاصر ومن إنشائها صلات مباشرة بأفراد منها ونَظْم هؤلاء في أجهزتها وشبكاتها ما أخذ يمتحن تماسك هذه الجماعات ويهزّه. صحيح أيضاً أن مدّ الهجرة والهجرة الريفية شتّت شمل العائلات وأن بروز المتعلّمين والأثرياء من ذوي الطموح المستجدّ راح يمثّل تحدّياً لبيوت الزعامة والسلطة في العوائل وفي البلدات والقرى وفي أحياء المدن وضواحيها. على أنه يبدو لي أن انتشار \"التشابه\" بين الأفراد أو عري هؤلاء من فوارق تميّز انتماءهم وتحمي هوياتهم لم يكن غير ظاهرة هامشية، في الحالة اللبنانية، أو هو أقرب إلى أن يكون فرضية حملت الأفراد على استباق تفرّدهم واستفرادهم بإعادة الانتظام.
فإذا صحّ هذا كان علينا أن نضيف ملاحظة أخرى: وهي أن استفحال \"التشابه\" (بين الأفراد) أو \"التسوية\" (بمعنى التقارب في المستوى بين الجماعات)، في وجوه بعينها من الحياة الاجتماعية، يكون من شأنه، في حالات (من بينها، بلا ريب، حالة المجتمع اللبناني ابتداء من عشايا الحرب) أن يزيد من بروز التفاوت في وجوه أخرى وأن يشحن هذا التفاوت باحتمال العنف. فما كان الاحتجاج عليه محدوداً، من تفاوت بين مواقع الجماعات في النظام السياسي وكان يسوّغه أصحاب الحظوة بأنواع أخرى من التفاوت، لا يستغرب أن يصبح الاحتجاج عليه عارماً حين تتقارب الحظوظ من التعليم ومن الثروة، إلخ.
عوائل وطوائف...
هذا ولم يكن ما أشرنا إليه من إعادة انتظام للأفراد انقطاعاً عن البنى التقليدية بعمومها. وإنما كانت الإعادة أقرب إلى اعتماد بعض من تلك البنى في مواجهة بعض. وإذا لم يكن من التسمية بدّ فإنه يجوز القول، دون افتراض للعمومية أو للبتّ، إن الطائفة الآخذة بناصية الحياة الحديثة من تعليم متنوع ومن تصرّف رأسمالي بالعمل وبالثروة قد استظهرت على العائلة، في ميزان للقوى متعدّد الأوضاع بتعدّد الحالات والمواقع. لم يتحصّل هذا الاستظهار لجميع الطوائف في الوقت عينه ولا بالنسبة نفسها. وإنما جاءت إليه تباعاً وعلى تفاوت في ما بينها فرضه تباين المسارات التاريخية والدواعي والإمكانات. بقي تبعثر الشبيبة الشيعية بين تنظيمات اليسار والأحزاب القومية، وهو التبعثر الذي يضرب مثلاً مفضّلاً على التذرّر وتداعي البنى التقليدية، ظاهرة أقرب إلى الهامشية في عينِ مَن عاينها وعرف حدودها، إذا هي قورنت بالثبات النسبي للزعامات العائلية، من جهة، وبالتوسّع المتدرّج لزعامة صريحة الصفة المذهبية وغامرة المدى الطائفي هي الزعامة الصدرية، من الجهة الأخرى. ولم تلبث هذه الظاهرة الأخيرة أن راحت تستوعب الأولى (أي التبعثر) ابتداء من أوائل السبعينات...
كانت مركزية سلطة الدولة وضرورة استيعاب ضغوط الهجرة الريفية على العائلات وعجز هذه الأخيرة عن حمل مطامح المتعلمين المسرعين إلى التكاثر، إلخ.، تزكّي كلها أفضلية الطائفة على العائلة، بما هي (أي الأفضلية) ظاهرة متصدّرة للمرحلة ولكن لا يمنع تصدّرُها صمودَ حالاتٍ مجانِبة لها ولا بقاءها هي نفسها عرضة للانتكاس. فإذا وُجد سلوك حكائي، بمصطلح جيرار، في العقد الذي سبق الحرب وفي الحرب نفسها، فإنما هو – في ما أرى – هذا التبلّر المتقابل للطوائف وليس تذرّر الوحدات التقليدية، بما هي حواضن للهويات، ولا ما يلي ذلك من استشراء التشابه بين الأفراد واضطراب بوصلات الهوية عندهم. هذا التقابل الحكائي جالب للعنف بالتأكيد، وهو ما يردّنا إلى جيرار ويزكّي أساس فرْضيّته. فهو (أي التقابل) في الواقع، استنفار يتنازع أطرافه أنصبة غير مقرّرة بأعرافٍ مُجْمَع عليها أو بتقاليد مستقرّة وهي أنصبتهم الخاضعة لموازين قوى متحرّكة في كل من الدولة والمجتمع. أو لنقل: في كل من الدولة والمدينة، فإن هذا أقرب إلى ماجريات النزاع اللبناني.
أقول إن السلوك الحكائي الذي اعتمدته الجماعات الطائفية تعزّز في العقد الذي سبق الحرب (فكان من مظاهره، مثلاً، نشوء الحلف الثلاثي وسقوط الشهابية في انتخابات 1968 النيابية) وظل يتعزّز في الحرب نفسها... والحال أن الحرب، بما هي عنف، كانت قابلة ممتازة لتبلـّر الطوائف. فالحرب، على نطاق البلاد، إنما تخاض بالطوائف أو بالتنظيمات الطائفية، بالأحرى، بما لهذه من بعد متصل بتكوين الدولة ومن مداخل إلى النزاع الإقليمي، فيما يستبعد أن تصلح لخوضها العائلات والأحلاف العائلية. ويستوي تبلّر الطوائف هذا مجلبة محتملة للعنف بعد أن يعزّزه العنف. وقد أشرنا إلى الأمر الأوّل ويكاد الثاني يستغني عن الإشارة. فمن البيّن أن العنف ينشئ الأسوار، من نفسية وحسّية، بين أطراف كانت إلى الأمس متخالطة وأنه، في كثير من حالاته، يتّخذ إنشاء هذه الأسوار وتمتينها أو ردع الرغبة في هدمها هدفاً صريحاً له. وفي الأقوال السائرة أن العنف يجرّ العنف وأن العنف دوّامة أو لولب (spirale بالفرنسية)... وفي هذا الكلام ما فيه من أثر الخبرة التاريخية وليس هو بالقول الذي جعل منه التكرار عادة لفظية فارغة.
طائفتان أم ثماني عشرة؟
ولم يكن توطّد الطائفية هذا ليمنع – بل كان يرجّح! – الاقتتال في صفوف كل من المعسكرين المتواجهين. وذاك أن الكلام على ديانتين تهيمنان متواجهتين في لبنان كان، على الدوام، كلام أناس ضعيفي المعرفة بالأرض أو خائفين من التصريح بما يعرفون وأن كثرة الطوائف أَوْقَعُ بكثير من هذه الإثنينية وأن هذا الوقع قد زاده الزمن وحوادثه قوّة. ولقد كان الميزان بين طوائف كل من الديانتين واحداً من الأسئلة التي افتُرِض أن الحرب جعلتها معلّقة ويسعها أن تأتي، في نهاية المطاف، بجواب جديد عنها. لم يكن التشكيل الجديد للبلاد بتظهير البعد الطائفي واستظهاره على ما عداه ليمنع أيضاً نوازع الهيمنة ونشوب الصراع بين المكوّنات السياسية لهذه الطائفة أو تلك. فإن الصراع على الطائفة الواحدة كان، في هذه البلاد، واحداً من المرامي الكبرى والأبعاد المحتومة للحرب الأهلية العامّة. حتى إذا عدتُ، بعد هذا، إلى العنف أو إلى أصله، تراءت لي ضرورته، لا في امّحاء الفوارق بل في ضرورة حملها على التحوّل إلى صوى ومعالم للتنازع. العنف هو ما يتكفل بهذا التحويل أو الغصب للفوارق. وهو يصطنع من هذه الأخيرة خنادق تزداد عمقاً كلما اشتدّ.
هذا يحملني على موافقة سمير فرنجية، بلا تحفّظ، على تقديمه التواصل على أنه هو، أو ما يسميه أهل الحوار بين الأديان، \"حوار الحياة\"، وليس مجرّد السلام أو المصالحة الإجرائية، نقيض العنف. وإنما أتحفّظ عن تفاؤل سمير فرنجية بما أعدنا تحصيله من هذا التواصل بعد خروجنا من الحرب. لا ريب أن أشياء مهمة قد استعيدت. ولكن الصورة الغالبة بقيت ما جاءت به الحرب من فرز في السكن وفي التعليم وفي الكثرة الكاثرة من مواضع التعامل والعمل وفي الانتظام السياسي ومن إفراط شعائري في مساق الاستعراض العدواني للتدين، إلخ.، إلخ. بل إن كثيراً من ذلك مضى، بعد الحرب، شوطاً أبعد في التفاقم أو في التوطّد.
هذه الترسيمات التي ألجأ إليها لمحاورة فرضيات هي بمثابة المقدّمات النظرية لكتاب سمير فرنجية ومثلها أيضاً ما يعتمده المؤلف نفسه من ترسيمات لا ينبغي لها أن تعدّ ترياقاً لكلّ استعصاء نظري. فهي لا تستبعد، عند سمير فرنجية، ولا تستبعد في قراءتي لكتابه إبراز ما لهذه أو تلك من الحبكات التي جرّت موجة أو جولة من موجات العنف اللبناني وجولاته من فرادة. ما كان لحزب الله أن ينشأ، مثلاً، ولا أن يطبع بطابعه السنوات الأخيرة من الحرب وما تلاها من أعوام... ما كان له أن يشقّ حركة أمل ثم يرث، بالقوّة الصريحة، مقاومتها لإسرائيل ومقاومة الحركة الوطنية قبلها... ثم يوشك، بعد حين، أن يستتبعها أو هو يستتبعها فعلاً... ما كان له ذلك لولا أن ثورة إسلامية تسلّمت زمام الدولة الشيعية الكبرى في العالم سنة 1979 ثم نشأ محور ضمّها إلى سورية حافظ الأسد وأوصلها إلى موقع وجدت له أهمية جغراسية لا تضاهى هو الموقع الشيعي اللبناني. وليس أقدر من سمير فرنجية على الجمع في نصّ منسجم بين تفعيله للترسيمات العامّة واستعادته استعادة الفاعل المتأمل، للكبريات من وقائع المرحلة ولمكنونات ذاكرته من مبادرات أو معاينات كانت منه أو كان فيها، أخيراً.
مآثر...
لا أملك هنا أن أحصي واحدة واحدة جولات يأخذنا فيها هذا الكتاب باسطاً في كلّ منها ضوءاً غامراً على واحد من قطاعات خبراتنا أو محننا المعاصرة أو على وجه من وجوهها. أكتفي بالإشارة إلى مثالين: اللوحة الرفيعة السمت التي تعرضها الصفحات 75 إلى 80 من الطبعة الفرنسية لجلجلة الحياة اليومية في الحرب ولوجوه معاناتنا الحرب... وقبلها اللوحة الأخرى (وهي قد تفوقها بلاغة) لوجوه الدور السوري في الحروب اللبنانية وفي غدواتها ولأطوار هذا الدور، وهي ما نقف عليه في الصفحات 62 إلى 74. هنا وفي مواضع أخرى من الكتاب، نقع على مآثر في الإحاطة وفي دقة الوصف وبراعة التشخيص وفي الإيجاز الذي تعرف به البلاغة أيضاً.
وفي ما يتعدّى هذه الجولة وتلك، يجرؤ الكتاب على بتّ صريح للصلة بأنصار لبنانيين للسلام الأهلي طالما عللوا أنفسهم بالقول إن 4% من أهل البلاد يسألون عن الحرب فيما الباقون \"مدنيون أبرياء\". المسؤولية عامّة – يقول فرنجية – ولا منجاة لأحد من وجه ما من وجوهها، وإن تكن الأدوار، ولا ريب، غير متكافئة. أمرٌ آخر أعدّه من مآثر هذا الكتاب هو إبرازه أهميّة ترميم \"الذاكرة\" العامّة أو تقويمها ليستقيم خروج فعليّ من الحرب. وهذه مهمّة لم تحظ إلى اليوم بما هو متوجّب لها من تبنّي المنابر المختلفة وعناية بؤر التفكير والحوار العاملة في البلاد. وهو ما يحمل فرنجية على استذكار حارٍّ لمساعٍ، في هذا المضمار، يعلم أنها بقيت، على وجاهتها، متواضعة المدى والأثر...
لا أكتم إعجابي أيضاً بالإشارة إلى الصفة الوهمية لعَقْد يفترض أنه حصل بين الطوائف اللبنانية. وهذه إشارة ينطلق منها فرنجية إلى بسط تصوّره لإصلاح تفرضه حياة مشتركة لا مناص منها للأفراد ولا يأتي إملاءاً سياسياً أو تشريعياً من طوائف تحسب التوافق بينها غاية الغايات. من هذه الإشارة، تنطلق أيضاً قراءة فرنجية (وهي قراءة الخبير المصاحب) لاتفاق الطائف ولمكانة العيش المشترك من هذا الاتفاق وللدينامية التي يوجب هذا الاتفاق أن تضع البلاد على سكّة التحوّل إلى ما بات يسمّى \"الدولة المدنية\"... وهذا اصطلاح ابتدعه اللبنانيون لصيغة الإصلاح التي تراها ملائمة كثرة من طلاب الإصلاح بينهم. وهو أيضاً اصطلاح راح اليوم يشقّ سبيله بين طلاب التغيير العرب في مختلف أقطارهم حاملاً إلى حركات التغيير الجارية فيها ضرباً من \"اللبننة\" أحسن طلعة بكثير من \"اللبننة\" المشؤومة التي طبّق صيتها الآفاق في أعوام الحرب اللبنانية وبعدها.
مخالفة الختام
ما سبق يكفي وإن لم يكن مستوفياً كل ما أثارته في خاطري قراءة هذا الكتاب. ومع أن ما سبق يكفي فإنني أحب أن أختم كلامي بتصريح يرضي ميلي الغلاب إلى المخالفة. وهو أنني لا أوافق سمير فرنجية على تشخيصه لما كانته تظاهرة 14 آذار ولما شهدته الحركة المسمّاة باسمها من أطوار وصولاً إلى البؤس والذواء اللذين يسمانها اليوم. هذا التشخيص الذي يستغرق جملة من الصفحات في كتاب فرنجية ويمثّل ركناً فيه لا تصحّ نسبته إلى المؤلف وحده. بل هو، في ما خلا بعض التفاصيل، تشخيص منتشر. وخلاصته نسبة مفاعيل تجديدية عظيمة للتكوين السياسي الاجتماعي اللبناني إلى التظاهرة وإلى ما تلاها. تلك مفاعيل لا أراها، من جهتي، على القدر المنسوب إليها من قوّة التجديد ولا إلى أقلّ منه. ولأوضح أن هذه المخالفة – مخالفتي – ليست بنت اليوم: فقد باشرتها في آذار 2005 عينه وأتيحت لي مذّاك أربع مناسبات أو خمس للتعبير عنها وبسط أسانيدها. لذا لن أعود إلى هذا الموضوع هنا. فقد تعبت منه وأحسبني لم أقنع أحداً من أولي الأمر. كذلك تعبت حركة 14 آذار من نفسها ومن دعاواها القديمة أيضاً.
بيروت في أوائل آذار 2012