فارس ساسين
كانَ فارس ساسين إنسانًا مشرَّبًا بالفلسفةِ (ولكن بالشِّعْرِ أيضًا وبالسينَما وبكثيرٍ من أشياءَ أخرى مختمِراتٍ بالجَمال...)، فأمكنَهُ أن يُعَلِّمَنا، بالقدوةِ وبالنَّصِّ معًا، أنّ الفيلسوفَ، وهو المُعَرّفُ عادةً بأنّهُ "صديقُ الحكمةِ"، يسعُهُ أن يَكونَ بينَ أصدِقائه مُعَلِّمًا للصداقةِ والسَّلام".
عصام الشمالي
المقدمة بقلم جاد تابت
نواف سلام
ويتصدّى هذا الكتاب لأصول المسألة اللبنانية )الهيمنة الطائفيّة، المواطنة المُكبّلة، الدولة غير المكتملة( ثمّ لجذور الحرب ومساراتها بين 1975 و1989، أي حتّى اتّفاق الطائف الذي أنهى الصراع المُسلّح، لكنّ السلام
الذي أنتجه بقي هشًا. من هنا دعوة المؤلف إلى إقامة جمهورية ثالثة تستند إلى مبدأ إعلاء منطق المؤسسات على أي اعتبار آخر، بما يسمح بإقامة دولة مدنية، عادلة وفاعلة، على أساس مبدأ المواطنة الجامعة ومفهوم
سيادة القانون. وفي مقدمة الإصلاحات التي ينادي بها هي العمل في آن على تطبيق أحكام الطائف التي لم تنفَّذ بعد، وعلى ضرورة سد ثغراته وتصحيح اختلالاته.
ويستند المؤلف في كتابه هذا إلى تنوّع معارفه العلمية وإلى خبرته السياسيّة الطويلة، مستهدفًا قبل كلّ شيء، البحث في أسلوب موضوعي رصين، عن السبل التي تتيح للبنان الخلاص من محنته.
عقل العويط
أمّا أنتِ يا بيروت، فيمكنكِ أنْ تستعيني بموتِكِ مؤرَّخًا في 4 آب 2020 ، وممهورًا بتوقيته الدقيق، الساعة السادسة وسبع دقائق مساءً، لتعثُري على ما يبرّرُ استفاقةَ الحياة.
وكما يقفُ الرائي ليرى فيرى بأيِّ حقيقةٍ تحبلُ الحقيقةُ، حين يدُ القاتلِ تمعنُ في القتلِ، ويدُ القتيلِ لا تمعنُ في توضيبِ الجريمة، تلتئمين كمنارةٍ لا تُسجَّى في ساحةِ قتال، وكمنارةٍ جريحةٍ لا تموتين!
في الإعلام
محمد حسين شمس الدين
دايفيد ماثيوس
يتابع دايفيد ماثيوس في هذا الكتاب بحثه في شؤون الديمقراطية وسُبل المواطنين الى تدعيمها ومواجهة آثار تراجعها وانخفاض المشاركة في ما تُتيحه من مسارات وخياراتٍ واختيارات.
وماثيوس، رئيس منظمة "كيترينغ" حالياً، سياسي أميركي مستقلّ سابق تولّى وزارة "التعليم والصحة والرعاية" في حكومة جيرالد فورد، وترأّس لسنوات جامعة آلاباما ودرّس التاريخ فيها، قبل أن يتفرّغ للكتابة والإشراف على برامج بحثية تركّز على السياسة والديمقراطية وإعادة تعريفهما وبناء تجاربهما انطلاقاً من التداول والتفكير المواطني المشترك.
السياسة انطلاقاً من الحيّز العام
يحتلّ "الحيّز العام" في عمل ماثيوس حول السياسة والديمقراطية موقعاً محورياً. فتراجع الحضور المواطني في هذا الحيّز، وتقلّص اهتمام الناس بالشأن العام واعتبارهم إيّاه حكراً على السياسيّين المحترفين أو اختصاصاً حكوميّاً، مسألتان تلخّصان جوانب عدّة من أزمة الديمقراطية التي تعيشها المجتمعات الغربية، ولا سيّما المجتمع الأميركي، منذ عقود. يُضاف الى ذلك أن المصاعب الاقتصادية وتراجع فرص العمل وارتفاع كلفة الرعاية الصحية وعودة الكثير من النزعات العنصرية تجعل الشأن العام منفّراً ومُقلقاً لأكثرية المواطنين، وكأنه خارج أي نطاق تأثير شعبي فعلي.
من هنا، يعمد ماثيوس عبر استعراض حالات عملية وتجارب أميركية محلّية حول قضايا محدّدة، وتحليلها، الى إظهار قدرة الناس على العمل معاً والمشاركة السياسية في مواضع تُؤثّر على حياتهم اليومية، خدماتياً وبيئياً واقتصادياً وتعليمياً، من دون الحاجة الى انتظار القرارات الصادرة عن الحكومة الفدرالية أو عن مؤسسات الدولة الكبرى. وهذا يمنح الديمقراطية فرصاً لإعادة تكوين نفسها من أسفل، داخل الأحياء والبلدات والجماعات والجامعات والثانويّات وسواها من مساحات "الحيّز العام"، بما يجعلها ثقافة حياة وعملاً يومياً لا تبدّده إحباطاتٌ من الأحزاب أو المسؤولين الحكوميّين أو الأجسام السياسية "الوطنية" الكبرى.
الديمقراطية التداولية والمقايضات والمسؤولية المواطنية
تُظَهّر الأمثلة والتجارب الفردية والجماعية الكثيرة المشار إليها في نصّ ماثيوس صورةً عن الديناميّات والمبادرات واللقاءات المواطنية القائمة في مئات المدن والبلدات على امتداد الخارطة الأميركية. وللتنويه، فإن المنهجية المُعتمدة في كثرة من الأنشطة هذه، هي منهجية طوّرتها منظمّة "كيترينغ" على مدى عقود، وتعرّفها بأنها منهجية "التداول والخيارات". وهي إذ تركّز على الأفراد العاملين في مؤسّسات المجتمع المدني أو مبادراته، لا تستثني أولئك الممثّلين للسلطات، محاولةً بذلك بناء جسور بين المجموعات والأفراد المستقلّين وصانعي القرار بمستوياته المتعدّدة.
وتقوم منهجية "التداول والخيارات" على دعوة المواطنين والمواطنات في لقاءات عامة الى التحاور حول قضايا تمسّ حياتهم اليومية، والبحث أوّلاً في ما يعدّونه الأهمّ فيها والأكثر تأثيراً عليهم وِفقاً لاعتباراتهم وقيَمهم ومصالحهم المختلفة، وأحياناً المتناقضة؛ ثم البحث ثانياً في الخيارات التي يمكن اعتمادها لمواجهة الآثار والتحدّيات الناجمة عن إشكاليات القضايا المذكورة؛ والبحث أخيراً في المقايضات الممكن إجراؤها عند اعتماد الخيارات للوصول الى النتائج المتوخّاة.
بهذا، تعرّف اللقاءات المواطنية والمبادرات المرتبطة بها السياسةَ بوصفها اتخاذ الناس لقرارات وخيارات مبنيّة على معرفة وعلى فهم للمصالح والقيم، وعلى تسويات تُحيل الى الأولويات والإمكانيّات والى ما ينبغي أن تجري متابعته لاحقاً. كلّ ذلك ضمن أطر محلية ووسط جماعات لا تنتظر أن تأتيها الحلول من "الخارج"، ولا ترى في الاتّكال على الحكومة أو على سلطات الولاية أو المحلّة ما سيُنهي بالضرورة مشاكلها أو يحدّ منها.
وإذا كان الشأن المحلّي أو الجماعاتي في الولايات المتّحدة يبدو متقدّماً على ما سواه في التجارب المعروضة، ففي الأمر ما يمكن تفسيره بالإحالة الى النظام الفدرالي، والى ضخامة البلاد واستحالة التعامل مع شؤون وطنية على النحو نفسه في مختلف أرجائها. والأهم ربما، في كونه مرتبطاً بتراث أميركي قديم بنت فيه جماعات تجاربها الخاصة قبل أن تقرّر التوحّد ضمن الإطار الوطني وفق منطق شديد اللامركزية. وهي إذ توحّدت وأعلت شأن "القيَم" الجامعة، أبقت في الوقت عينه على تمايزاتها وجهويّاتها وبعض مكوّنات هويّاتها كمنطلقات وشروط للعيش معاً والقبول المتبادل بالاختلاف والتنوّع.
أميركا في صوَر داخلها
غالباً ما تبدو الولايات المتّحدة الأميركية من الخارج قوّة هيمنة كونية، وكتلةً سياسية متراصّة بنظامٍ يتيح حرّيات فردية وعامة واسعة للمواطنين، لكن بتأثير محدود منهم على صناعة القرار في واشنطن وآلياته أو على سياسات كتل الضغط "اللوبي" الحاسمة فيه وتوجّهاتها.
وإذا كان جانب من الصورة هذه صحيحاً لجهة سياسة أميركا الخارجية وقدرتها العالية على التأثير في العلاقات الدولية والتدخّل في شؤون الدول والمنظومات، أو لجهة نفوذ كتل الضغط وسلطة وسائل الإعلام داخلها، فإن جوانب عدّة تبقى مغلوطة أو مختَزلة أو تبسيطية لديناميات مجتمعٍ غنيّة ومتنوّعة.
ومن الأمثلة المقدّمة في هذا الكتاب، كما من أمثلة ومتابعات غيرها سبق لدايفيد ماثيوس أن قدّمها وحلّلها في كتبه السابقة (وتُرجم منها الى العربية كتابه "السياسة للشعب"، المركز اللبناني للدراسات، بيروت، 1997)، ثمة صوَر مختلفة للداخل الأميركي تتكوّن، فيوفّر تكاملها فهماً أدقّ لبلادٍ تتدفّق الحيوية المواطنية فيها رغم الأزمات والتناقضات الصارخة، ورغم المآلات الانتخابية وما قد ينجم عنها من مفاجآت في الكثير من الأحيان. وهي حيويّة يمكن في أيّ حال الاستفادة منها ودراستها وتشجيع ما يُشبهها في بلدان أُخرى.
منظمة كيترينغ والشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
على هامش ما ذُكر وربطاً به، يفيد ذكر تجارب عربية اعتمدت منهجية اللقاءات التداولية التي طوّرتها منظمة "كيترينغ" والتي يستقي ماثيوس من خبرتها الأميركية ومن تقييم تطوّرها الكثير من الخلاصات.
فبعد تجربة لبنانية تلت الحرب الأهلية واستلهمت من برامج "كيترينغ" ما سمح لها بتنظيم عشرات اللقاءات المواطنية للتداول بقضايا البيئة والطائفية وحقوق المرأة والنظام الصحي (بين العامين 1994 و1998)، تمأسس عمل عربي ابتداءً من العام 2007 ضمن "الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية"، بهدف تنظيم لقاءات تداول شعبي مشابهة في كلّ من الأردن واليمن والبحرين ومصر والجزائر والمغرب (إضافة الى لبنان). فجرى العمل على قضايا المشاركة السياسية وإصلاح النظم الانتخابية والبيئة والبطالة. ثم توسّع العمل بعد الثورات العربية العام 2011 وانضم الى فريقه أو تعاون معه باحثون وباحثات من تونس وسوريا، وواكبت "الشبكة" عبر مؤتمراتها وإصداراتها الثورات وما أحدثته من تحوّلات سياسية ومجتمعية وثقافية، وما نجم عن اصطدامها بالثورات المضادة من صراعات وتصدّعات.
وبإصدار هذا الكتاب، تستكمل "الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية" تعاونها مع منظمة "كيترينغ" وتقدّم الى القارئات والقرّاء العرب، المعنيّين بالأسئلة المتعلّقة بالتجارب الديمقراطية وبأدوار المجتمعات المدنية فيها، نموذجاً يربط الحالات الدراسية الميدانية بنظريات "المشاركة السياسية" وأشكال تطويرها وتحصينها.
وتتوجّه "الشبكة" بالشكر الى الأستاذ مصطفى الجرف الذي ترجم نصّ هذا الكتاب من الإنكليزية بدقّة وأمانة، والى الزميل الأستاذ نزيه درويش الذي أشرف مع فريق عمل "دار شرق الكتاب" على إعداده للطباعة والنشر.
ملحم شاوول
تيريز دحدح الدويهي
تريز دحدح الدويهي
تريز دحدح الدويهي، مواليد زغرتا ١٩٥٥، مجازة في العلوم الاجتماعية. "بين الصلاة والنوم" هو كتابها الاول.
أحمد بيضون
أحمد بيضون
باحث مولود في بنت جبيل، جنوب لبنان، سنة ١٩٤٣. كان، حتى تقاعده في سنة ٢٠٠٧، أستاذاً للعلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية. نشر حوالي خمسة عشر كتاباً (بعضها بصيغتين: عربية و فرنسية) تتوزع موضوعاتها بين مجتمع لبنان و نظامه السياسي و بعض مسائل اللغة و الثقافة العربيتين و له أيضاً أعمال أدبية وترجمات. آخر منشوراته "دفتر الفسبكة: نتفٌ من سيرة البال
والخاطر" (دار شرق الكتاب، ٢٠١٣) و هو الجزء الأول من هذا الكتاب.
التهمت مضمون هذين الكتابين بمتعة وشهية فائقتين. إلاّ أنني لم أقتنع بعد بفتح صفحة فيسبوك خاصتي والدخول في هذا النسسيج العنكبوتي الحديث. لأنني لم أشعر بعد بضرورة "الهجرة إلى الفيسبوك واللجوء فيه".
هذا كتابٌ لم يعتنِ صاحبه بترتيب أبوابه، بل اكتفى باختيار – لا أدري إذا اختار فعلاً – بعض ما كتبه وأنزله حسب الترتيب الزمني من دون تدخّل من جانبه، تاركًا للقارئ عناء استخراج المضامين والثيمات التي تخترق الدردشة الفسبوكية. سأختار ما لذّ ليّ قراءته من قفشات سلّطت الضوء على شؤون ذات علاقة ببعض السلوكات الاجتماعية من دينية وطائفية وغيرها. اخترت من القفشات ما أراحني منها شخصيًا ولاسيما تلك التي تظهر أنه لا يزال هناك أناسٌ ملتزمون باقتناعات أساسية راسخة من زمان – أي قبل 1975 – إلى الآن. من بين هذه القفشات، اخترت تلك التي تتمتّع بالسخرية والاستهزاء بأمور ورموز يعتبرها بعض الناس اليوم مقدّسة وخطيرة.
كتاب الحكم (Aphorismes)
لنبدأ بما هو أقلّ خطورة، أي أقلّ قدسية: السلوكات العامة والقضايا اللغوية والسياسية.
في الكتاب مجموعة من الحكم تتطرّق إلى سلوكات الناس وإلى قضايا لغوية وسياسية وحتى دينية. فالحنق في التخاطب، والكذب والعنف والظلم والحقيقة والبحث عنها، كلها أمورٌ يتجلّى الموقف منها في أسلوب حكمي مقتضب وسديد الإصابة، تهكّمي المنحى يغلب عليه منطق التضاد إبرازًا للمفارقة بين القول والفعل، بين الحقيقة والكذب.
تظهر هذه الحكم مدى ابتعاد الكاتب عن المظاهر الخادعة والخضوع لتأثيراتها في محاولته ضبط ما تكتنزه من معان غير معلنة وحقائق يراد إخفاؤها. فالتكاذب والعنف المتبادل وغيرهما من الممارسات تشير إلى أننا قد أضعنا "مصباح ديوجين" وعلينا العثور عليه أولاً لبلوغ الإنسان.
في شؤون اللغة
على الصعيد اللغوي، بين بَطّيخٍ "يُفتح" وبِطّيخٍ "يُكسر" قبل أكله، وسكّين يسعها ادّعاء "الذكورة والأنوثة، فتدخل على الذكر والأنثى دون حاجة إلى محرم"، و"جماع" هو مزيج من "الدعس" و"المعس" الحنونين، وذكورة تختصر في "خصيتين أنثيين"، وخطابة عربية "تأنف الاعتدال والكلام المعتدل الحرارة والبرودة" لأن الخطيب القدير هو من يجيد اللذع واللسع (أي الضرب)، وفقهاء لا يصفون "المرأة الزانية" بل "المرأة المزني عليها" لأن المرأة تكون، في هذه الحالة، مفعولاً بها وليست فاعلاً... يعطينا أحمد بيضون دروسًا في فقه اللغة ودلالاتها، فيذكّرنا بقواعد استعمال "إن" بعد فعل القول، و"باء" الجرّ الذي لا يدخل إلاّ على المتروك بعد فعل الاستبدال، والفرق بين "الوَفَيات" و"الوفِيًات" من النساء اللواتي لا يرغبنَ خيانة أزواجهنّ بعد موتهم. وفي السياق نفسه لا يتوانى من الاستهزاء ببعض الألقاب السائدة ولاسيما لقب "البروفسور" الذي يعرّبه بـ"نصير الجلد على المؤخّرة"، والاستغراب من هاتف "جوّال وثابت" معًا، ومخالف للدستور اللبناني بسبب توطينه.
أما "التشاؤم"، فبين معانيها "التوجّه إلى الشام"، على غرار "الذهاب إلى ماردين" بالنسبة إلى "التمرّد"، و"الذهاب إلى اليمن" بالنسبة إلى "التيامن".
في الشأن السياسي
في الشؤون السياسية، يطاول الاستهزاء والسخرية دولاً وقيادات وشعارات رائجة. فيدعو للتخفيف من عذابات شعوب المنطقة، إلى أن يتبارز بالمسدّس خادم الحرمين الشريفين والولي الفقيه/المرشد الأعلى بدل تصارع الطوائف والمذاهب، مللها ونحلها، "في طول هذا الشرق وعرضه". وإذا كان مصير الشعوب معلّقًا "بحصاة صغيرة استقرّت في مجرى بول كرومويل" أو "بأنف كليوبترا الذي لم يكن قصيرًا إلى الحدّ المطلوب"، فإن "وجهة تاريخنا، نحن أهالي غرب آسيا، منوطة بسلوك الخلايا المتمرّدة في بروستات السيد علي خامنئي". يستغرب بيضون أيضًا ولع الإسلاميين بشعارات لم يخترعوها، لا هم ولا أسلافهم، ولاسيما شعار البندقية التي صمّمها ضابط شيوعي ونراها ترفرف على البيارق الإسلامية. ولكن يبدو أن الشعار شيء مختلف إذ يبيح ما لا يبيحه اختلاف العقيدة. أما في مسألة "النسب النبوي"، فيطالب بيضون "بفصل القمح عن الزؤان" بفحص الـDNA لكل من يدّعي هذا النسب.
في الشأن اللبناني
في الإطار اللبناني، يستحضر بيضون شعار غسّان تويني "حروب الآخرين على أرضنا" مصحّحًا إياه ليصبح "شعوب الآخرين على أرضنا" محاكاة لشعار ميشال شيحا "لبنان الأقليات المتشاركة". أما تمسّك خصوم السلفيين بما يسمّيه "نقطة النفاق" الديموقراطي، فيرى أنه يجهر عكس ما يضمر: "يقولون دولة، ويضمرون طائفة، وعائلة وعصابة. وعليه يكلّفون الناس مشقّة الانتخاب، ويكلّفون أنفسهم مشقّة تزويره". في الموضوع الوطني، يتساءل "هل من مقاومة" لاسترداد أراضٍ استولى عليها نصّابون من لبنان؟ وهي أراضٍ مساحتها أكبر من المساحة الفعلية لمزارع شبعا. والسؤال موجّه لمن ليس بحاجة لنسمّيه.
في سبعينات القرن الماضي، كان الماويون يتمثّلون بزعيمهم ماو تسي تونغ. ولما كان هذا الأخير يحبّذ السباحة من بين الرياضات المختلفة، أخذ مؤيّدوه يملأون شواطئ بلدانهم وهم يصرخون "كلّنا ماو"، مثلما صرخ البعض، منذ سنة، "كلّنا شارلي إيبدو"، وآخرون، منهم أحمد بيضون نفسه في صفحته الفسبوكية، "كلّنا جبل محسن، كلنا طرابلس". على المنوال نفسه، اعتقد الخليفة البغدادي أن مؤيّديه سوف يحبّون ما يحبّه ويكرهون ما يكرهه. ولكن يبدو أن الذي حصل ليس نتيجة المحبة به، "فلقد ضعفت شهيتي للضحك والموسيقى، يقول بيضون، لا لأن الخليفة لا يحبّهما بل لأنني لا أحب الخليفة". ولما أفتت بعض الصحف أن قيمة ساعة الخليفة هي ستة آلاف دولار، راح بيضون، انطلاقًا من خبرته في الساعات، "يفتي بلعن ساعة الخليفة".
وكونه من أنصار حقوق الإنسان، اعتبر "التعذيب بنار جهنّم مخالفًا لحقوق الإنسان والتشريعات الدولية"، فيسأل ببراءة المؤمن كيف السبيل إلى وقف هذا التعذيب؟ وذلك لأنه يحبّذ فكرة مارك توين: "إذهب إلى الجنة من أجل الطقس، وإلى جهنّم من أجل الصحبة".
في الشأن الديني
وأخيرًا ... نصل إلى السخرية الأخطر، تلك المتعلّقة بأمور الدين. فكلامه لا يستثني أحدًا ولا موضوعًا يتّصل بالشأن الديني. في السياق نفسه تسلك "فسبكات" الدفتر الثاني منحى المحاكمة العلنية، بلغة السخرية، لجيل وصلت به الوقاحة إلى حدّ تنصيب أحدهم نفسه خليفة لا على المسلمين فقط بل أيضًا على البشرية بأكملها ومن ملكت أيمانه، وذلك في عصر المواطنة والفرد لا الجماعات والقبائل. وهذا ما دفع بالكاتب إلى الجهر بقوة: "من سلمان رشدي إلى رسّامي "شارلي إيبدو": نحن مع حرية العبارة وضدّ الديانين الأدعياء. نحن مع العبارة الحرّة أخطأت أم أصابت لأننا بشرٌ أحرارٌ نخطئُ ونصيب." أما عن السخرية من بعض الظواهر الشائعة في المنطقة، فيستشهد بزياد الرحباني الذي "علّم (...) الغناء العربي أن يسخر، لا من المجتمع أو من ساسته (فهذا قديم)، بل أن يسخر من نفسه أيضًا وهو يسخر من موضوعه."
في اقترابه من الموضوع الديني، يتجاوز أحمد بيضون المحظورات والممنوعات مع تمسّكه باللياقة أسلوبًا ومعالجةً. فكل شيء بالنسبة إليه مسموح، والكل يعبر بسلاسة في مدوّنته أو، كما يقول، في "عرضحاله": الكائنات الدينية من الله ومرسليه، إلى المقامات الدينية من بطاركة ومفتين ومشايخ وفقهاء ومفكّرين، ومؤسسات دينية من طوائف ومذاهب... تحضر في مدوّنته أيضًا المفاهيم الدينية وصورها في الدنيا والآخرة. كلها أمورٌ يقترب منها بأسلوب يزاوج بين التهكّم والرصانة، وينطلق من كيفية ممارسة الدين من قبل من يدّعون أنهم مؤمنون. الدين والتكفير، الحلال والحرام، الجنّة والجحيم، الدين والمجتمع، الدين والفحشاء، الجنة وحور العين، كتب الله، الله والأحزاب، عامل المذهبية وعامل الاستثمار، تفجير الذات، الخطاب الديني وجمله وعباراته، إلخ (...) أترك للقارئ لذّة اكتشاف ما يتضمّنه هذا الكتاب من إشراقات ساطعة تضيء القبيح في قبحه، وترسم طريقًا للتفكّر السليم يوصلنا إلى حيث تنبسط مساحة الفكر النقدي الذي يعالج الظواهر الإنسانية من دون تقبّلها ببلاهة المتزمّت الجاهل.
ناقد ادبي واستاذ جامعي
¶ أحمد بيضون، فسبكات،
الدفتر الثاني، شرق الكتاب، بيروت 2015.
وفي غابة كهذه من اختلاط المعاني والدلالات، يضاف أمر آخر يسري علينا كما يسري على غيرنا: كيف يُكتب في الفايسبوك؟ كيف تُميَّز الكتابة الفايسبوكيّة عن كلامنا الشفويّ المعهود وكيف تُميَّز، في المقابل، عن كتابة الكتاب أو الكتابة للصحيفة؟ وتالياً، من هو الجمهور المتلقّي الذي يغاير جمهور الجريدة أو الكتاب غيرَ المشروط بوجوه وملامح وأسماء؟ وأين يستقلّ، مثلاً لا حصراً، التلييك والتشيير بذاتهما عن العلاقات الشخصيّة والقناعات السياسيّة بما يرفعهما قليلاً أو كثيراً في سلّم الموضوعيّة؟
يُخيّل إليّ أنّ أحمد بيضون الذي لامس بعض هذه الأسئلة وسواها في دفتره الأوّل، ترك هذه الآلة الجديدة تفكّر وظيفتها، مختاراً أن يجيب بطريقة خاصّة جدّاً. وطريقته هذه مفادها منح الأولويّة للكتابة والكتابيّة بعد تركيزهما على ما سماه «فنّ الخاطرة». فأحمد كمثل عاشق عشيقته الكتابة، والحبيب لا يهمّه المكان الذي يلتقي فيه الحبيبة، ولا تعريف ذاك المكان وتفاصيله، بقدر ما يهمّه أن يلتقيها فيه، فكأنّه يطبّق قولة دينغ هسياو بنغ الشهيرة «ليس المهمّ لون القطّة، بل المهمّ أن تصطاد الفئران». ففي هذه الغرفة تُمارَس كتابة البحث، وفي تلك كتابة المقالة، أمّا في غرفة الفايسبوك تحديداً، فتُكتب الخاطرة التي قد يعنّ لها مرّاتٍ أن تتاخم المقالة أو تجاور البحث، كما يمكنها مرّاتٍ أخرى أن تسخر وأن تَضحك وتُضحك.
فالمهمّ هو الكتابة التي يتولّى أحمد حراسة مرماها، وهو لهذا لا يكتب في الفايسبوك إلّا ما يُكتب، علماً أنّ السائد في استخدامه هو كتابة ما لا يُكتب. وفي المعنى هذا نراه يطوّع الفايسبوك للكتابة، مانحاً إيّاها ميداناً جديداً، بدل تطويعه الكتابة للفايسبوك. ولا نستطيع مطالبة العاشق بأن يعشق اثنتين بالقدر نفسه، إذ إنّ ولاء كهذا للكتابة لا بدّ أن يرافقه شيء من الخيانة، أو في الحدّ الأدنى التوظيف، لما ليس كتابةً محضة.
برهاننا الذي لا يُدحض على ذلك أنّ أحمد استطاع أن ينتج كتابين، أو دفترين، ممّا أسماه فسبكة. فالشيء بمجرّد أن يُكتب، في الفايسبوك أو في سواه، يغدو صالحاً لأن يُنشر بأحرف محرّكة وشدّاتٍ مُصانة. وهذا تعالٍ وتفارُق يُعزيان إلى عمل الكتابة، يعزّز طبيعته هذه شخص أحمد الذي لا يعرف الإسفاف. وبهذا المزيج الذي يضمّه والكتابةَ تتبدّى فايسبوكه خالية من الإسفاف خلوّها من الصغائر. لكنّها تتبدّى أيضاً متصلّبة في رفض المجاملة بالتلييك، على غرار لايك بلايك، إذ هي لا تندرج في قيم المزيج بمكوّنيه، أحمد والكتابة، كما تتبدّى متصلّبة في الامتناع عن كتابة «ههههه» تنبيهاً إلى أنّه يمزح، معوّلاً فحسب على قوّة الكتابة المازحة.
وقبل كلّ حساب وبعده، فإنّ الكمّ والنوع اللذين كتبهما عن الثقافة واللغة يشجّعان على اتّهامه بالأصوليّة، في ما خصّ الكتابيّة وما تتوسّله من لغة، ويشغلان بالنا على أحمد حين يُضطرّ إلى «تدنيس» الكتابة بالردّ كتابيّاً على فاتورة كهرباء مبالغة أو فاتورة بائع خضار طمّاع.
أمّا في ما عدا الكتابة، أو ما كان دونها، فهو مثل صاحبه دينغ هسياو بنغ، قليل الدوغمائيّة، كثير البراغماتيّة، لا يكتفي بقبول التعدّد في كلام الغرف وبتطبيق مبدأ «لكلّ مقام مقال»، بل يتيمّن بالمحارب أحياناً فيطلب استراحةً عابرة، هي، في الغالب، نشر صورة من أرشيفه الشخصيّ.
وتحديدٌ كهذا لعمل الفايسبوك له، في ما أظنّ، أسبابه في تكوين أحمد بيضون الشخصيّ. فهو في مقدّمة كتابه المرجعيّ عن رياض الصلح، ذكر ما معناه أنّه يتعلّم من المناهج جميعاً من دون أن يُلزم نفسه بواحد منها. كذلك، وفي مناسبة فايسبوكيّة حديثة العهد، كتب أنّه يكره الرائج والموضة.
وقد تفيدنا هاتان الملاحظتان في تفسير الاستخدام البيضونيّ للفايسبوك ولتوظيفه، من ثمّ، غرفةً من غرف كثيرة لخدمة غرض هو أبقى من الموضة وأعرض من الامتثال لمنهج.
فالحُرّ الذي يقارب الفوضويّ في أحمد يجعله عاصياً على الانضباط في ما ناقشه واختلف حوله حكماء الفايسبوك وكهنتها. وهذه الحرّيّة سخيّة ككلّ الحرّيّات، أعطتنا، هذه المرّة، كتاباً جميلاً آخر.
* ألقيت الأسطر أعلاه في ندوة أقامها معرض الكتاب العربيّ بمناسبة صدور كتاب أحمد بيضون «الفسبكات – الدفتر الثاني»، عن «دار شرق الكتاب»
لكن الحياة أيضاً فن وأحمد بيضون قادر على أن يتفنن فيها، بكل ما في الفن من لعب وتسلية وفهم، وتعليقاته على الفايسبوك هي جماع ذلك كله، كثير من اللعب مع كثير من الفهم وهنا لا يكون الفهم أقل فناً ولا تسلية من اللعب، هنا يكون الفهم ضاحكاً وحاذقاً في نفس الوقت، ويكون مشرقاً ومسلياً كاللعب. يمكننا أمام ذلك أن نتذكر فولتير كما نتذكر في الوقت نفسه كبار الناشرين العرب الذين كان للكتابة عندهم متعة الحديث والمناظرة والمحاورات الكبرى. نفكر بأحمد بيضون كركن في ثقافتنا، بل كنموذج لصيرورة الثقافة شخصاً وإنساناً ونمط حياة، كنموذج لاقتران الثقافة بالمثقف واتصالهما من غير فصل، وكنموذج لالتزام حر لا تفوته مع ذلك المزحة والنادرة، كنموذج لحياة قد تكون بالدرجة الأولى فصلاً دائماً من الصداقة.
(]) أقيمت أمس في معرض الكتاب، ندوة حول كتاب أحمد بيضون «الفسبكات - الدفتر الثاني»، شارك فيها (بالإضافة إليه) كل من جورج دورليان ويوسف بزي وحازم صاغية.
ويشمل الكتاب، كما يدل عنوانه، معظم ما كتبه بيضون على جداره الفايسبوكي خلال العامين المنصرمين. فالمؤلف، هو أحد أبرز الناشطين بين المثقفين اللبنانيين في كتابة وتأليف فن "الستاتوس" (أو "البوست")، وهو من أمهر الشاغلين على صقل فن كتابة الخاطرة الفايسبوكية، بوصفها جنسًا جديدًا في الكتابة والتواصل، بما يتناسب مع التقنيات والمساحة التي يوفرها الجدار الفايسبوكي.
أذكر حين كنت أقرأ قبل 25 سنة "ديوان الأخلاط والأمزجة"، أني تعجّبت من قوة الطرافة المتأتية من رصانة الكتابة، فالرصين كنت أحسبه هكذًا متجهمًا وعبوسًا، وحينها أيضًا استغربت كيف لباحث ومؤرخ وقور أن "يلعب" شعرًا عاميًا وفصيحًا، هو في الحالتين شعر يستأنف نكهة تراثية تتجاهل شروط الشعر الحداثوي ونظرياته.
طوال ربع قرن كان التعجب رديفًا للإعجاب، فـ"شيخ مثقفينا" (كما يحلو لكثيرين منا نعت أحمد بيضون)، لا يتوقف عن اللعب الرصين، عن مزج دقة الكلام وصواب العبارة بخفة المزاح ورونق الحبور، فنحن بوسعنا أن نجد الضحك حتى في مؤلفاته السياسية، وفي أبحاثه اللغوية وفي مساهماته بعلم الاجتماع والتأريخ.
عن الطرافة والضحك، قد نتذكر هنا مزاج نيتشه الخطر، لكنني أميل أكثر إلى تذكر قصة كتاب الضحك لأرسطو في رواية "اسم الوردة". الضحك الذي يحررنا من الخوف، رديف المعرفة، صنو الروح الإنساني، والملازم دومًا لمخاتلات العقل.
أظن أيضًا أن كتابة بيضون لا تتأتى من براعة وحذاقة وسعة اطلاع وحسب، لكن أيضًا من سمة شخصية هي "التهذيب" بمعناها الأصلي، أي الحكمة والحنكة وحسن تدبير، هذا ما يمنحه، بين ندرة، معرفة حدود الجد والهزل، ما يسعفه دومًا على منح الرصانة قدرة المداعبة والألفة والطرافة والسخرية الخالية من الأذى. فصنيعه في الكلام يكاد يكون حميمًا ولطيفًا، ولا يخلو مما نسميه عادة بـ"اللغة الديبلوماسية"، حتى في عبارات الغضب والاستنكار والسخط، نرى أن أناقة التعبير تكبح احتمال الشتيمة.
عَلَم المعاني والمباني، كما وصفته الجامعة الأنطونية، المجرِّب دومًا ضروب الكتابة وأنواعها، عدا السيرة الروائية الذاتية، التي نطمع أن ينجزها في مستقبل قريب، فاجأنا قبل عامين بكتاب "دفتر الفسبكة". فنحن أهل الفايسبوك، أو "الفسابكة" كما اجترح بيضون ونحت، لم يمض على انشغالنا وتجربتنا في الفضاء الافتراضي حينها أكثر من ثلاث سنوات، معظمنا ابتدأ في الانضمام إلى هذا النادي الكوني في العام 2010 تقريبًا، وفي السنة الأولى لم ندر حقًا كيف نتفاعل مع هذا الوسيط الجديد في التواصل، لكن في العام 2011، صرنا نقول لأحدهم باستنكار: "ألم تدخل بعد إلى الفيسبوك وتنشئ صفحتك؟" كأننا بذلك نوحي بأنه لا يتخلّف عن زمن الكومبيوتر وحسب، بل أيضًا يتخلّف عن اللحاق بالثورات العربية نفسها، كأننا نتهمه بأنه عديم الصلة بالواقع وليس فقط بالتكنولوجيا، وكنا نحسب أن الواقع الثوري والوقائع السياسية؛ إذ يؤلفان مستقبلًا وفق مشتهانا، فإن "الفيسبوك" ذاته يصنع بدوره ذاك الواقع وتلك الوقائع، هو الرابط بين الفكرة والرأي والحقيقة، هو الفعل واللغة والسياسة والإعلام، بقدر ما هو "الاجتماع" ذاته، طالما فيه "تحضر" هوية كل فرد، وبه يتمرأى الأنا والآخر.
بدا أن شرط تحقيق انتصار سياسي، أو تغليب رأي، أو صنع وجهة نظر تكسب العقول والقلوب لا يكون بمؤتمر صحافي مثلًا، ولا بكتابة مقالة أو إطلالة تلفزيونية وحسب، بل ثمة فن جديد آسر، تلزمه مهارة لغوية خاصة، وموهبة، وثقافة وفطنة: كتابة الستاتوس. هكذا وجدنا لأنفسنا مهمة جديدة وعملًا إضافيًّا، أي الانهماك اليومي بالكتابة والقراءة في الفيسبوك، أو بالأحرى، ووفق لغته: الستاتوس، اللايك، المشاركة، التعليق.. حيث يتداخل باستمرار الشخصي والعام تداخلًا حميمًا.
قبل الثورات العربية، كان عهدنا بالفيسبوك قريبًا، بالكاد ندرك له وظيفة ودورًا، ونحسبه من غوايات المراهقة والتسلية والثرثرة المجانية وخلو الوقت، وبابًا لـ"التعارف" أشبه بما كان قديمًا هواية المراسلة البريدية، طالما أننا نعرف أن مبرمجه مارك زوكربيرغ ابتكره أصلًا للتعارف ما بين طلاب جامعته، لكننا منذ العام 2011 انتمينا إليه باندفاعة جماعية، مؤمنين بأننا فيه نبقى على قيد الوجود، نجاري الزمن ونحياه، وفيه نؤلف وقائعنا وواقعنا، كانت علاقتنا بالفيسبوك شديدة الجدية، نداوم فيه ونعمل ونجتهد، بالتزام أشبه بشعور الواجب تجاه النفس وتجاه الآخرين، هو تظاهرتنا وهو مقالتنا، وهو ذخيرتنا في كل المعارك والنزاعات والسجالات، هو الشأن العام والسياسة و"النشاط"، وبقدر ما هو مكان سهرتنا أو جلستنا الصباحية، هو كذلك صحيفتنا أو حتى اجتماعنا السياسي، أو مطالعتنا الثقافية.. وعلى هذا النحو كان الفيسبوك هو الواقع، صانع الوقائع والرأي العام والسياسة... والثورات.
في تلك الفترة تمامًا، أسعفنا في هذا المسار، اقتراح أحمد بيضون في صوغ إسلوب أدبي – ثقافي – سياسي لكتابة الخاطرة أو عرض حال أو الستاتوس أو البوست. "تهذيب" فن الستاتوس وتطويره كجنس أدبي وليد، يخضع لسرعة الزمن الفايسبوكي وكثافته، يخضع لشرط الاختصار واكتمال المعنى بأقل عدد من الكلمات، كما يخضع لفن الطرافة ورقي التعبير ومهارة السخرية والكاريكاتورية.
ونحن، الذين منحنا أحمد بيضون اسمَنا الجديد "الفسابكة"، بتنا اليوم منهكين، متبرمين، ومتذمرين، ليس من الفيسبوك، بل مما آلت إليه أمورنا وأحوال بلدنا لبنان العالق في اللامعنى وإدقاعه السياسي وتهافت اللغة فيه وانحطاط آداب التواصل، وانقلاب التفاؤل إلى تشاؤم قاتم مما يجري في دولنا العربية، وتزامن كل هذا مع تراكم القنوط من الحال اللبنانية وضحالة السجال السياسي فيه واستوائه على التفاهة وفراغه من أي معنى، وإذ يسود راهنًا ذاك الشعور أن الفيسبوك وصل إلى ذروته، وبدأ يستنفد وظيفته ودوره وصار مصدرًا للمزيد من التبرم والإحساس باللاجدوى المرهق... أخذ بعضنا ينسحب منه ويدخل في صمت إلكتروني، إيحاء بـ"مراجعة" للذات، وبعضنا الآخر بات متكاسلًا قليل المساهمة، حائرًا ومرتبكًا، وثمة من عاد بالفيسبوك إلى حاله الأولى، كأن يكتفي بنشر صورة عائلية مثلًا أو يضع مرة في الأسبوع رابطًا لمقالته في صحيفة وحسب.
مثال هذا التاريخ الموجز والمكثف هو كتاب "الفسبكات"، على يد أبرع الفسابكة وأسرعهم في التجدد وشيخهم من غير منازع.
أنطوان حداد
زياد ماجد
خالد زيادة
أحمد بيضون
الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
سمير فرنجية
هذا الكتاب هو حكاية مسيرة طويلة، متعرّجة كثيراً، وتجريبية أحياناً، ومصمّمة على الدوام، بحثاً عن مخرج من الحرب التي دمّرت لبنان. وهو على وجه الدقّة بحثٌ عن منابع هذا العنف في اماكن معتمة من النفس البشرية، بحثٌ يتجاوز السياسة ومتعلقاتها من دون أن يهملها. تناول الكتاب: العنف الطائفي أثناء الحرب الأهلية؛ العنف الإسرائيلي ومشروع تحالف الأقليات في المنطقة ضد الأكثرية العربية – الإسلامية؛ العنف السوري ومشروع 'سوريا الكبرى'. ثم انكب على التفتيش عن 'مخرج' من الحرب، بإعادة نسج الروابط بين اللبنانيين. ثم تناول 'حدثاً تأسيسياً' هو اغتيال الرئيس رفيق الحريري و'انتفاضة الإستقلال 2005'، تلك الثورة التي لم تكتمل. وحدثنا أخيراً عن مفهوم 'العيش المشترك'، رابطاً ما بين بُعدَي المواطَنَة والتعدُّد الطائفي، كما عن ضرورة التأسيس لثقافة جديدة هي 'ثقافة الوصل'، والبحث عن طريق عربية نحو الحداثة في ضوء 'الربيع العربي'. وخلص أخيراً إلى هذا السؤال: متى وكيف يصبح سلام لبنان والعالم العربي ممكناً؟
كتابٌ يحدّث اللبنانيين، للمرة الأولى، بـ'المسكوت عنه' في سيرتهم، كما يقدّم للمرة الأولى حكاية 'ربيع بيروت' بلسان مهندس هذا الربيع، ورائيه، وضميره غير المستتر.
المؤلف: مفكر سياسي وباحث. ساهم في تأسيس عدد من مراكز الأبحاث، من بينها 'مؤسسة الدراسات اللبنانية ' The Lebanese studies foundation و'أوراق العالم العربي' Fiches du monde Arabe. انخرط في الحياة السياسية منذ وقت مبكر، فكان قائداً طلابياً، ثم عضواً فاعلاً في 'الحركة الوطنية' أثناء الحرب. اسس 'المؤتمر الدائم للحوار اللبناني'، وشارك في تأسيس 'اللقاء اللبناني للحوار'. وبصفته عضواً مؤسساً في 'لقاء قرنة شهوان' و'المنبر الديموقراطي' لعب دوراً مميزاً في تكوين المعارضة الوطنية المختلطة، باسمها أعلن عام 2005 انطلاق 'انتفاضة الاستقلال' التي ستؤدي إلى انسحاب القوات السورية من لبنان. انتخب نائباً في البرلمان عام 2005، وهو اليوم عضو في قيادة 'حركة 14 آذار'.
برغم ظهوره فى الأسواق عام 2012، وبرغم ترجمته للغة العربية فى نفس العام تقريبا وحصوله على جائزة فينيكس القرنسية الأدبية، فإن كتاب سمير فرنجية المعنون بـ\"رحلة إلى أقاصى العنف: من أجل مستقبل للسلام فى لبنان والعالم العربى\" لا يزال يحقق أعلى المبيعات، ولا يزال كاتبه محط أنظار الصحافة العالمية التى تتهافت عليه لتعرف رأيه فيما يجرى الآن فى الوطن العربى.
سمير فرنجية لمن لا يعرفه هو باحث سياسى وصحفى لبنانى وقصة حياة فرنجية هى رحلة طويلة فى البحث عن حل للحرب التى دمرت لبنان، فهو واحد من ألمع العقول اللبنانية المثقفة فهو ليس أى شخص ولكنه واحد من عائلة سياسية مارونية بارزة وهو ابن شقيق الرئيس الراحل سليمان فرنجية، وكان منذ شبابه مغمورا فى عالم السياسة والعنف. عاشت عائلته العديد من المذابح أشهرها مذبح ميزيارا عام 1957 ومذبحة أخرى عام 1978 ولا يمكن التغافل بالطبع عن الحرب التى استمرت 15 عاما.
فى كتابه الأخير رحلة إلى أقاصى العنف، يخوض فرنجية فى رحلة طويلة من أجل البحث عن حل للحرب التى اجتاحت لبنان، يندد فرنجية بالعنف وبالاعتداء على الهوية وبالحرب الأهلية وبالاعتداء الإسرائيلى على لبنان وبتحالف الأقليات ضد الأغلبية العربية المسلمة. فهو يناقش العنف السورى ومشروع سوريا العظمى، ثم يعرج على الخروج من الحرب وكيف حدث وكيف أتيح للبنانيين تقوية الروابط بينهم، ثم يتناول مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريرى وكيف تم اغتياله، حيث أسماه بالقتل المؤسسى، فضلا عن تناوله لثورة الأرز وهى الثورة التى لم تكتمل، يتناول فرنجية فى نهاية كتابه إمكانية العيش معا فى ظل وجود المواطنة والتعددية والحاجة إلى ثقافة جديدة هى ثقافة الاتصال والحاجة إلى طريق عربى نحو الحداثة لربيع عربى، وينهى فرنجية كتابه عن كيفية توقع مستقبل للسلام فى لبنان والعالم العربى.
إنّ إنضمام الروائي اللبناني أمين معلوف للأكاديمية الفرنسية يجعله «خالداً» في اللغة الفرنسية, وأحد أهم مبدعيها, وحارساً على تطوّرها وتنقيتها, ولجعلها مفهومة لدى الجميع..
تزامن هذا الحدث مع صدور كتاب المفكر اللبناني سمير فرنجية «رحلة إلى أقاصي العنف» وقد صدر باللغة الفرنسية أولاً ثم مترجماً باللغة العربية..
إنّ أمين معلوف وسمير فرنجية ليسا مجرد مواطنين لبنانيين, بل هما عيّنة مثاليّة لجيل التجربة الوطنية اللبنانية, بيمينها الذكي ويسارها الذكي أيضاً, وبتقليدها وإقطاعها وصحافتها وحرّياتها وأحزابها وحركتها الطلابية بمواصفات فرنسا 68.. إنّهما نموذجَ للنّخبة التي كانت على أهبّة الإستعداد لتولي إدارة شؤون الوطن بعلمٍ وخبرةٍ وتجربةٍ وفهمٍ واسع للمكوّنات اللبنانية, وإدراكٍ لما يدور من حولهم في المنطقة والعالم, بالإضافة إلى تراكم سياسي متدرّج في الديمقراطية عبر الحياة البرلمانية البدائية المخترقة من نخب كبيرة ذات وزن سياسي وتطلّع ديمقراطي متطور، ولا أريد ذكر بعضهم كي لا أسيء إلى آخر، لأنّ كليهما يشكلان عناصرَ مكملة في التجربة الوطنية الواحدة..
إنّ لبنان الستّينات وبداية السبعينات وقبل اليوم المشؤوم الذي لم يكن أبداً خارج المتوقّع، لأنّ مقدّماته وأعراضه كانت قد بدأت بالإنتشار، وخصوصاً بعد الهزيمة الكبرى للنظام العربي في 5 حزيران 67، واعترافه مهزوماً بحدود دولة إسرائيل من خلال قبوله بالقرار 242 والذي تضمن في فقرته الأخيرة إحترام حدود جميع الدول وضمناً إسرائيل.
بعد هذا السّقوط الرهيب للنّظام العربي وتنازله عن قضية تحرير فلسطين، كان بديلهم عن ذلك الكفاح الشعبي المسلّح.. أي قالوا للشعب الفلسطيني «إذهب وربك وقاتلا إنّنا هنا قاعدون»..واختاروا لبنان الدولة الأصغر.. والدولة الأضعف، لتكون دولة المواجهة الوحيدة، وإنّ على لبنان واللبنانيين منفردين أن يحملوا أوزار هزيمتهم وأن ينصروا الشعب الفلسطيني حتى إسترداد أرضه.. ولقد شهد كلّ من سمير فرنجية وأمين معلوف سقوط القيم المدنية أمام قيم العنف وعسكرة المجتمع.
إنّ نخبة التّجربة الوطنية اللبنانية بمكوّناتها السياسية والحزبية والإبداعية والإعلامية والإقتصادية والتّجارية وحركتها الطّلابية، لم يكن بمقدورها في تلك الأثناء تحديد إتجاه الريح، وهل إذا كان ما تشاهده هو مجرد ظاهرة عابرة، أو أنّها ستتحوّل إلى واقع بديل للواقع القائم، إلاّ أنّ الجميع اعترف بأنّ العنف والرّغبة في إلغاء الآخر هو في صلب تكوين الشّخصية اللبنانية.. وكانت التأكيدات تتوالى فصولاً وهولاً ودماراً مع اندثار كل المعالم المدنية عن بيروت التّجربة الوطنية، والتي اختارها أيضاً المتحاورون الجدد بالأسلحة المختلفة ميداناً لقتالهم وحوارهم.
أُكره أمين معلوف على الهجرة بعيداً عن تلك الهويات القاتلة، معجوناً بالتّجربة الوطنية اللبنانية الغنية والمتميّزة.. والممسكة بكلّ العناوين والتفاصيل والموروثات، ليشق طريقه روائياً فرنسياً، باحثاً، ومتأمّلاً في أعماق هذا الشرق، من صخرة طانيوس، إلى سمرقند، إلى.. إلى.. وحقّق مكانة عالمية رفيعة، وحصل على جوائز كبيرة، حتى انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وأصبح خالداً.
وأُكره سمير فرنجية على مواجهة العنف في الشخصية الوطنية اللبنانية، وهو الذي نشأ في بيئتها، وعرف كلّ تجلّياتها، واستطاع قهرها في داخله، وأراد أن يتمكّن كلّ اللبنانيين من قهر تلك النزعة البدائية والمدمّرة، واختار طريقه باتّجاه الحوار بين التقابلات اللبنانية وغيرها من المكوّنات الطارئة على الواقع اللبناني، بدون يأس ولا كلل، على مدى ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن من حوار إلى آخر، ومن إبتكار إلى آخر، لجعل الشخصية الوطنية المدنية حقيقة قائمة ومعترضة وقوية، وقادرة على المبادرة والمواجهة في كثير من الأحيان ومحاولة دائمة للتّواصل والحوار، وإعادة ترتيب الأولويات.
لم يحقّق سمير فرنجية عضوية الأكاديمية الفرنسية، بل حقّق كفرد مكاناً طبيعياً في كليمنصو بيروت، إنّ المسيرة الوطنية للفرد سمير فرنجية هي واقع حقيقي وليست واقعاً إفتراضياً.
إنّنا نقول لأمين معلوف كما قال له جميع المسؤولين اللبنانيين، مبروك، وبترْفع الرأس.. ومبروك لفرنسا هذا اللبناني المبدع والخلاّق.. الذي أرغمناه على الهجرة من البلد الذي أحبّ، وكذلك لزملائه الأكاديميين والمفكرين والعلماء والإختصاصيين اللبنانيين الذين اختاروا الهجرة كأمين معلوف، فحقّقوا النجاح الذي يؤكّد على أنّنا بشر كغيرنا، ولا تستحق شعوبنا هذا العقاب.
ونقول لسمير فرنجية شكراً لأنّك بقيت معنا وآمنت بنا وبقدرتنا على قهر غريزتنا، وبتمسّكنا بقيمنا المدنية، وقدرتنا على البقاء في وطننا، وتحمل العنف بكلّ أنواعه وأشكاله، السياسي، والأخلاقي، والإعلامي، والمالي، والطائفي، والديني، والعنف الذّاتي داخل أنفسنا، والعنف العسكري، وهو ألطفهم.
إنّ أمين معلوف وسمير فرنجية إثنان من آلاف المدنيين اللبنانيين الذين انقسموا بين هذين الإتجاهين في التّعامل مع طاعون العنف الذي أطاح ولا يزال بواقعنا على مدى أربعة عقود متتالية.. لقد آن لهؤلاء أن يجعلوا من العنف في الشخصية الوطنية اللبنانية قضية وحيدة للحوار والتّفكير والتّأمّل، وأن نسأل أنفسنا أيّ الإتّجاهات كانت أسلم، رحلة سمير فرنجية إلى أقاصي العنف أو رحلة أمين معلوف بعيداً عن العنف وهويّاته القاتلة؟!
إنّ الطبقة السياسية التي هنّأت أمين معلوف سوف تصدر قانوناً خاصاً يمنع أمين معلوف من حق العودة إلى الوطن إذا فكّر بذلك، كما فعلت الطبقة السياسية المصرية بأحمد زويل بعد الإعتزاز به وتقديره فوضعت فقرة خاصة به بقانون الإنتخاب يمنعه من التّرشح لرئاسة الجمهورية..
وهذه الطبقة أيضاً لن تقرأ كتاب سمير فرنجية، ولن تقول له شكراً، لأنّ العنف عندها هو أقصر طريق لكلّ شيء.. السلطة.. والثروة.. وغيرها.. باستثناء بعضهم ممن يرغبون بادّعاء إزدواجية التّجربة بين العنف والمدنية.. ويبقى السؤال هل هناك غير إعادة الإعتبار للشخصية المدنية الوطنية سبيلاً لبناء الدولة المدنية؟! وهل سيكون هناك سلطة غير العنف؟! عندما يقول اللبنانيون مرة أخرى: الشعب يريد إسقاط النظام..
ليس من عادات السياسيّين اللبنانيّين أن يصدروا كتباً. فقد سبق لبعضهم أن كتبوا مذكرات أو نشروا خطباً ألقوها، بيد أنّ تلك \'الأعمال\' لم تستطع التسلل إلى واجهات المكتبات العريضة، إمّا لأنها أقرب إلى \'الحكي\' الشفويّ، أو لأنها ميّالة إلى نفخ صاحبها وتدليك نرجسيته. وغالباً ما كانت الكتب تلك تخلط المهمّ بالأقلّ أهميّة فتخسر قدرتها على أن تكون مادّة معرفيّة مفيدة وجذابة.
ويصحّ هذا إلى حدّ بعيد في السياسيّين العرب الذين يغادرون السلطة، أو يغادرون هذه الدنيا، من غير أن يستفيد أحد من تجاربهم الغنيّة. والحال أنّ أحد تقاليد التقاعد السياسيّ في البلدان الغربيّة وضع كتاب يجمع بين مذكرات صاحبه وبين خبرته في الحكم أو المعارضة. هكذا يصير كتابه واحداً من مراجع فهم الحياة السياسيّة في البلد المعنيّ. وغالباً ما يغدو السياسيّ المتقاعد مستشاراً لمؤسّسة بحثيّة، أو عضواً فاعلاً فيها، يضع تجربته في خدمة صناعة القرار الوطنيّ.
لقد آثر سمير فرنجيّة، النائب اللبنانيّ السابق وأحد قادة حركة 14 آذار، أن ينحو منحى مخالفاً. فهو أصدر مؤخّراً كتابه \'رحلة إلى أقاصي العنف\' (دار شرق الكتاب) بالفرنسيّة (ثمّ ترجمه إلى العربيّة محمّد حسين شمس الدين)، ناقلاً تجربته من داخل التجربة العريضة للمعاناة اللبنانيّة منذ أواخر الستينيات، وخصوصاً منذ أواسط السبعينيات و\'حرب السنتين\' الشهيرة.
ولكنّ فرنجيّة، الذي وضع كتابه بلغة شيّقة وسرد محبّب، آثر أيضاً أن يدخل إلى موضوع السياسة من باب العنف، حتى ليتراءى أنّ مكافحة العنف هي ما قاده إلى التدخّل في الشأن العامّ. وهو لا يتكتم على مصادر هذا الخيار في تجربته الشخصيّة والعائليّة. فهو من منطقة زغرتا في الشمال اللبنانيّ التي اشتهرت عصبيّاتها العائليّة بالحروب الدمويّة الصغرى في ما بينها. وكان لعائلة فرنجيّة نفسها حصّة الأسد في ذلك، خصوصاً أنها أنجبت مرشّحاً لرئاسة الجمهوريّة هو حميد فرنجيّة، والد سمير، ثمّ رئيساً للجمهوريّة هو عمّه سليمان. وقد قضت تجارب العنف المؤلمة بإنزال مرض شالّ بحميد على أثر ما عُرف بمذبحة كنيسة مزيارة (من أعمال زغرتا) في يونيو 1957. لكنْ في 1978، تعرّضت أسرة سليمان لمذبحة بالغة البشاعة حصلت في بيته نفسه، وقضى بنتيجتها نجله وزوجته وأفراد آخرون من عائلته ومحازبيها
واختيار سمير فرنجيّة أن يدخل إلى السياسة اللبنانيّة من باب العنف، ومن السعي إلى محاصرته وردعه، ربّما ابتدأ بالصدمة التي أحدثها مقتل كمال جنبلاط في 1977، على يد قوّات الردع السوريّة، وهي كانت \'صدمة لكلّ أبناء جيلي المطالبين بالتغيير\'.
ما هو أبعد من هذا أنّ اختيار العنف مدخلاً إنما يجافي تقليداً في السياستين اللبنانيّة والعربيّة يحتفي بالعنف، بل غالباً ما يميل إلى تقديسه وأمثـَلته. وقد كان لذاك التزاوج ما بين التقاليد القبَليّة السابقة على الحداثة وبين الإيديولوجيّات الراديكاليّة الحديثة (القوميّة، الاشتراكيّة... الخ) أن زكى لدينا ذاك الموقف التمجيديّ الذي لم يُعدم ممجّديه في الثقافة الغربيّة، وكان أبرزهم النقابيّ الفرنسيّ جورج سوريل. وقيمة هذا الأخير الذي تنقل في حياته وولاءاته بين الاشتراكيّة والفاشيّة والفوضويّة أنه قدّم حجّة مثلى للقائلين بأولويّة العنف الذي ظلّ الثابت الوحيد وسط المتغيّرات الإيديولوجيّة والفكريّة.
و\'رحلة إلى أقاصي العنف\' مطعّم بشهادات شخصيّة لصاحبها، بما فيها مبادرات حواريّة بذلها بين أطراف متخاصمين أو متحاربين. وهذا من ضمن استعراض للمحطات الأساسيّة في تاريخ العنف اللبنانيّ الحديث، يتخلله تعريف بشخصيّات زمنيّة أو روحيّة (البطريرك نصر الله صفير، الشيخ محمّد مهدي شمس الدين...) لعبت أدواراً متفاوتة على امتداد هذا المسار الدامي. كذلك تخترق الكتابَ حساسيّة غير مألوفة في السياسيّين اللبنانيّين حيال انعكاس العنف على حياة الأفراد ومصائرهم ويوميّاتهم.
غير أنّ ما لا يخطئه فرنجيّة هو التركيز على الاستراتيجيّتين السوريّة والإسرائيليّة حيال لبنان، وما امتلكته هاتان الاستراتيجيّتان من طاقة تدميريّة عاناها البلد الصغير ودفع ثمنها غاليّاً ولا يزال. وهو، في المقابل، يجهر بتعويله على \'الحراك العربيّ\'، ليس بوصفه حدثاً سياسيّاً فحسب، بل أيضاً كحدث ثقافيّ يراهن عليه مقدّمة لتأسيس مواقف جديدة من الفرد والفرديّة، ضدّاً على الولاءات الجماعيّة، كما من العلاقة بالغرب وقيم الحداثة والتنوير.
ومع هذا تجنب الكاتب ما وقع فيه كثيرون من اللبنانيّين الذين حالت الأدوار الخارجيّة المتضخمة دون قدرتهم على رؤية المسؤوليّة الداخليّة في العنف اللبنانيّ. ذاك أنّ \'معظم اللبنانيّين لا يدينون العنف إلا حين يطاول منطقتهم وجماعتهم الخاصّة. وقلما تجد أحداً يذهب إلى أصل الحرب ليشكك في مشروعيتها. فالمسيحيّون الذين يعترضون على تجاوزات الميليشيات في مناطقهم لا يفعلون كذلك حين ترتكب مجازر بحقّ المسلمين أو الفلسطينيّين. ولو فعلوا ذلك لوجدوا أنفسهم مضطرّين إلى الاعتراف بمسؤوليّتهم لأنهم في الواقع ساعدوا هذه الميليشيات واحتضنوها وموّلوها. وهذا الحكم نفسه ينطبق على المسلمين الذين سمحوا بتنامي الأصوليّات العنفيّة في أوساطهم، فساهموا بدورهم في انفجار الحرب وتماديها\'. وفي مكان آخر يعترف سمير فرنجيّة بأنّ التباين بين اللبنانيّين \'مطلق وممتدّ إلى كلّ مكان: في موقع العمل والمدارس والجامعات والمستشفيات ووسائل النقل العامّ، وصولاً إلى الأسَر التي باتت مهدّدة في وحدتها\'. ومع هذا فالعنف ليس لبنانيّاً حصراً، وهو ليس بمنأى عن \'القضايا\' المتسبّبة بتفاقمه ممّا تعمل الخطابيّات النضاليّة على تنزيهه: ذاك أنّ ثقافة العنف \'أغرقت العراق وفلسطين ولبنان في الدم والنار: ثلاثة بلدان لم تعد «المقاومات» فيها سوى أدوات للموت\'.
ما لم يستطع سمير فرنجيّة أن يتجنبه هو جرعة تفاؤل بمستقبل العلاقات بين الطوائف اللبنانيّة، مستمدّة من تفاؤله بـ14 آذار وتجربتها. وهذا ما يستلزم نقاشاً مطولاً، على رغم رغبة كاتب هذه السطور المتشائم في أن يكون التفاؤل على حقّ.